2025-08-03
٩ أغسطس ٢٠١٨
في زمن ثقافة التشهير الإلكتروني، من المهم أن نتأمل نتائج أفعالنا الجمعية
في مكانٍ ما شخص غريب يتعرض لصعقة كهربائية خفيفة، وأمامك مقبض صغير، إن أدرته سيزداد الألم الذي يشعر به ذاك الغريب زيادة ضئيلة جدًا لدرجة أنه لا يلاحظها حتى، تديره وتمضي في طريقك، ثم يأتي مئات الأشخاص من بعدك ويديره كل منهم أيضًا، حتى تصرخ الضحية في النهاية من الألم.
هل اقترفت أي خطأ؟ أطلق ديريك بارفيت، الفيلسوف البريطاني المؤثر الذي توفي في يناير 2017م، على هذه القضية اسم “الجلّاد غير المؤذي”. يبدأ بارفيت بسيناريو أبسط: ألف جلاد يدير كل واحدٍ منهم المقبض ألف مرة على ضحيته، من الواضح أن هذا أمرٌ فظيع.
ثم يفترض حالة أخرى: يقوم فيها كل واحد من المعذِّبين بإدارة المقبض ألف مرة، لكن كل دورة تصيب ضحية مختلفة من بين ألف ضحية، والنتيجة النهائية هي نفسها؛ ألف إنسان معذب، ومع ذلك يبدو أن هناك اختلافًا أخلاقيًا، إذ لا يبدو أن أيًا من هؤلاء المعذّبين قد ألحق ضررًا حقيقيًا بأي ضحية على حدة.
قد يبدو هذا نوعًا من التمارين الذهنية الذكية التي يحبها الفلاسفة، فهو يتحدى الرؤية النفعية التي يُختزل فيها خطأ الفعل إلى عواقبه، ولكنه في الظاهر بلا صلة فعلية بالعالم الحقيقي. لكن العالم تغير منذ أن نشر بارفيت هذا السيناريو عام 1986م. فاليوم، في عام 2018م، يحسب مؤلفا هذا المقال نفسيهما من “المعذّبين غير المؤذين”، وكذلك أنت في الغالب، بغض النظر عن الجانب الذي تؤيده في أي قضيةٍ كانت.
يتكرر سيناريو بارفيت طوال الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي. شخص ما يكتب عنك تعليقاً جارحًا على الفيسبوك؛ قد لا يؤذيك الأمر كثيرًا في البداية، بحسب علاقتك بذلك الشخص، وقد يمر دون أن يلاحظه أحد، فلا يبدو مهمًا، ولكن إذا حصل المنشور في اليوم التالي على ألف إعجاب وعدة مئات من التعليقات الساخرة، فقد تتحطم مشاعرك، فمع أن كل تعليق على حدة قد لا يسبب إلا ألمًا قليلًا، إلا أن التأثير التراكمي أشد وقعًا بكثير.
في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان “إذًا تعرّضت للتشهير علنًا”، تناول جون رونسن آثار التنمر الجماعي على الإنترنت، وسرد من بينها قصة امرأة نشرت تغريدة ساخرة عن امتياز البيض فانقلبت عليها الأمور رأسًا على عقب، إذ انهالت عليها عشرات الآلاف من التغريدات الغاضبة، ما أدى إلى فقدانها وظيفتها واضطرارها للاختباء.
منذ ذلك الحين، لم تهدأ الحشود الرقمية، فقد وجهت تركيزها نحو طبيب أسنان قتل أسدًا، وعدد من النساء البيض اللواتي اتصلن بالشرطة دون سبب واضح للإبلاغ عن أشخاص سود، وأستاذة جامعية يسارية طلبت من أصدقائها طرد صحفي من الاحتجاج، وغيرهم الكثير.
عندما نفكر في وحشية وسائل التواصل الاجتماعي، غالبًا ما يخطر في بالنا السلوك الفردي الفظيع ، مثل التهديدات بالقتل أو بالاغتصاب، أو تسريب المعلومات الشخصية كعناوين السكن ومواقع الأطفال، أو الأكاذيب الفاحشة وما شابه ذلك، ولكن “المعذِّبين غير المؤذين” لا يبلغون هذا الحد أبدًا؛ نحن فقط نضغط زر الإعجاب وإعادة التغريد وربما نترك تعليقًا ذكيًا في بعض الأحيان. ولكن هناك الملايين منا، وكل منا يدير المقبض بدوره.
لا يخبرنا بارفيت ما الذي يدفع المعذّبين في تجربته الفكرية، ولكن الحياة اليومية تقدّم لنا الكثير من التفسيرات، فنحن كائنات أخلاقية في نهاية المطاف، وقد أظهرت التجارب المخبرية والحياة الواقعية أن لدى البشر ميلًا لرؤية من يرتكب فعلًا لا أخلاقيًا ينال جزاءه، ويستند هذا الميل إلى منطق تطوري راسخ: فلولا نزوعنا لمعاقبة المتجاوزين أو إقصائهم، لما كان هناك أي ثمن للشر، ولما أمكن للمجتمعات التعاونية أن تنشأ من الأساس.
هناك أيضًا نوع من “الرصيد الاجتماعي” الذي يُكتسب عندما يُنظر إلينا على أننا مُعاقِبين أخلاقيين؛ فنحن نحب أن نظهر صلاحنا للآخرين للإشارة إلى فضيلتنا، ونميل أكثر إلى العقاب أمام الآخرين، وتشير الأدلة إلى أن المتفرجين ينظرون بإعجاب أكبر – ويظهرون قدرًا أعلى من الثقة لاحقًا – لأولئك الذين يتصدّون للأفعال السيئة، مقارنة بمن يشهدون سوء الآخرين ولا يفعلون شيئًا.
من الصعب فصل الدوافع الأخلاقية والاجتماعية في العالم الحقيقي، فعندما يكتب فيلسوف مثل براين دبليو فان نوردن، الذي يكتب لمنتدى ذا ستون -: “مثل معظم الأميركيين، ابتهجت عفويًا عندما رأيت القومي الأبيض ريتشارد سبنسر يلكم في وجهه أثناء إحدى المقابلات”. من الصعب معرفة مدى كون هذا تعبيراً عن المتعة الحقيقية لحصول العنصري على جزائه العادل، أم أنها رغبة – ولو جزئية – في أن يُنظر إليه على أنه مناهض للعنصرية أمام جمهورٍ مؤيد.
إذا كان الدافع الواعي للإدانة الأخلاقية يرتكز في الغالب على استعراض الموقف، فإن فكرة تعذيب وإيذاء ضحايانا قد لا تخطر على بالنا أبدًا، وما يزيد الأمر سهولة أن الغضب الأخلاقي على الإنترنت لا يكلّف شيئًا في معظم الأحيان – فلا عواقب واقعية حقيقية في معظم الأحيان – ما يجعل هذا النوع من الإدانة أسهل بكثير، وكما عبّرت زميلتنا مولي كروكيت من جامعة ييل في مقال لها مؤخرًا: “إذا كان الغضب الأخلاقي نارًا ، فهل الإنترنت وقودها؟”
هناك أيضًا نظام مكافآت في التشهير عبر الإنترنت، ففي مقال نُشر في موقع Quilette بعنوان: “كُنْتُ من الحشد حتى سعى الحشد خلفي”، يروي شخص يصف نفسه بأنه ناشط سابق في قضايا العدالة الاجتماعية ويكتب تحت الاسم المستعار باريت ويلسون، ويصف التشويق الذي شعر به في تلك الأيام: “في كل مرة كنت أصف فيها أحدهم بالعنصري أو المتحيز ضد النساء، كنت أشعر بنشوة، تتغذى وتتجدد من خلال القلوب والإعجاب والتفضيلات التي تمثل قروش التأييد الرسمية في عالم التواصل الاجتماعي”.
ولكن… أليس هذا “الموت بألف طعنة” أمرًا حسنًا؟ لو كان الضحية هتلر، ألن يكون من الصواب أن نسمح بإنزال أشد العقاب به؟ بلى، ولكن المشكلة هي أنه عندما نكون مشحونين بالغضب الأخلاقي، ونتصرف كجزءٍ من حشد غاضب في عالم افتراضي بدون نظام ثابت للتقييم أو القانون أو العدالة، نرى كل أعدائنا كهتلر، ومن السهل حينها، على حد تعبير رونسون، أن يحدث “انفصال بين شدة الجريمة ووحشية العقوبة المبهجة.”
من المؤكد أن التشهير العلني يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية؛ في بعض الأحيان ينجح الحشد الغاضب في إصابة الهدف، ويوجه ضربته إلى الهدف الصحيح. لكن “المعذِّبين غير المؤذين” قد يلتفون بنفس السهولة حول الضعفاء؛ وقد تنشأ المضايقات من الأكاذيب أو الالتباس أو يغذيها الجهل بتحريض المشاهير والسياسيين ذوي النفوذ، بمن فيهم، على وجه الخصوص، الرئيس الحالي للولايات المتحدة.
لا يقتصر تأثير المعذِّب غير المؤذي على وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل يمكننا أيضًا رؤية الأثر التراكمي ذاته في أفعال فردية أشد وقعًا، فالإعجاب وإعادة التغريد تشبه الرجم بالحجارة من حيث البنية، خاصة إذا كان الحشد كبيرًا: فمن الصعب رؤية الضحية، ولا أحد يصيب الهدف بدقة، ومن ناحية أخرى، لدينا النبذ الاجتماعي، وهو نوع آخر من التعذيب يتم من خلال تراكم الغياب: عندما يتجنب الأفراد الاتصال مع شخص معين، وتتراكم تلك التجنبات حتى تصير عزلة خانقة.
استخدم الكاتب جوليان سانشيز، الباحث في معهد كاتو الليبرالي، مثال بارفيت في مناقشة سلوكيات مثل: الصفير على النساء في الشارع أو استخدام لغة مسيئة على سبيل المزاح، ويشير إلى أن الرد الشائع على انتقاد مثل هذه السلوكيات هو الإنكار، حيث يشعر كثيرون بأن نواياهم ليست سيئة وأن لا أحد يتأذى من هذه الأفعال، ولكن حتى لو كان هذا صحيحًا على المستوى الفردي، فإن الصورة تتغير عندما ننظر إليها كظاهرة متكررة: نفس السلوك يتكرر ألف مرة من ألف شخص مختلف، عندها يصبح تأثيرها أكثر وضوحًا، ويصعب إنكاره.
من الصعب تغيير السلوكيات التي يناقشها سانشيز، وربما من الأصعب إقناع الناس بإعادة النظر في سلوك التنمر الجماعي عبر الإنترنت، ذلك السلوك الذي يمكن أن يشعرنا بالارتياح عندما نظن بأننا نقف مع الحق، فقد تطورت عقولنا للتفكير في آثار أفعالنا الفردية؛ لذا من الصعب التفكير في التأثيرات التراكمية، لكن الدرس المستفاد من مثال بارفيت هو أننا إذا أردنا أن نكون أشخاصًا محترمين، فعلينا أن نحاول رؤية الصورة الكبرى.
الكاتبان: بول بلوم أستاذ علم النفس في جامعة ييل ومؤلف عدة كتب منها “ضد التعاطف: قضية من أجل الرحمة العقلانية”. وماثيو جوردان طالب دراسات عليا في علم النفس في جامعة ييل.
المترجمة: حاصلة على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي واللغويات في جامعة الملك سعود. تصب اهتماماتها في مجال الأدب والنقد والكتابة والترجمة.
المراجعة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
?Are We All Harmless Torturers Now
Paul Bloom and Matthew Jordan
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”