2025-08-07
٥ يناير ٢٠٢١
مراعي الديكتاتورية الرقمية – ظروف الاكتظاظ والمراقبة الجماعية والواقع الافتراضي— قد أصبحت هنا بالفعل
كانت هنالك لحظة في الأيام الأولى من الوباء (الوباء المقصود هنا هو وباء كورونا) حين انتشرت تقارير هنا وهناك تفيد بتحسّن في جودة الهواء والماء حول العالم، وذلك نتيجة الانخفاض المفاجئ في الإنتاج والحركة المرورية. انتشرت صور لقطعان الماعز الجبلي والخنازير البرية وهي تستكشف شوارع ومدارس المدينة الخاوية وكذلك صور الدلافين الكثيرة في مضيق البسفور. بعض هذه الصور مخادعة لكن جلها تحدثت للحظات عن فكرة الاضطراب الآتي من عدم التوازن في علاقة الإنسان مع الحيوان، الذي قد يؤول لإعادة تصحيح الأمور لصالح الطبيعة.
في ظل هذه الآمال خُلِقت الطبيعة لتؤدي دوراً مألوفاً: أن تكون ملجأ يضمن رفاه الإنسان. إن التفكير الطوباوي ممتلئ بهذا الخيال، فقد عاش الهيبربورينز في الأسطورة اليونانية حياة مثالية وراء الريح الشمالية في ربيع دائم، وكان سكان يوتوبيا توماس مور يزرعون حدائقهم بعناية فائقة كي ينالوا الكروم والفاكهة والأعشاب والزهور. وفي وقت لاحق رسم وليام موريس الطبيعة – والتي باتت واضحة تقريبا على جدران الصوالين المؤثثة جيدا – وذلك في تصويره الطوباوي المضاد لمصانع المجتمع الصناعي. أما طوباويو اليوم فيحلمون بتحويل مجمّعات التسوق إلى أراضٍ مشبّعة بالماء ويملكون نفس الروح الطوباوية.
تضمن الطبيعة في هذا المشهد مسارها الدوري، وإعادة الإنتاج، وإمكانية التنبؤ بها، على الخلاف من التاريخ بما يتضمنه من حدثية وانعطافات وتقلبات مفاجئة. بيد أن هذا وهم، فالطبيعة بالتأكيد تخضع للتاريخ إذ ما يظهر أنه خالد فيها سيمر بالانقراض والذوبان الذي لا يُمكن إيقافه. ليست الطبيعة مستقرة ودائمة وإنما تتدفق أبدا، ولا تنفصل عن الإنسان حيث تستعد وبثقة لأن تلملم مصائبنا وتعيد لنا أرواحنا. إنها على الأحرى عالقة بشبكة الإنسانية وجوهرها، ونشاطها المضطرب، ومساعيها الدؤوبة.
كان التدخل البشري في الحياة النباتية والحيوانية كبيراً، وعلى سبيل المثال فإن القطعان ومنها أجسام البقر قد استخدمت تاريخياً كمواد للتجارب ومختبرات للتدخل الحيوي المستقبلي وكافة صنوف تقنيات الإنجاب. وفي هذا اليوم تحتشد الأبقار في المزارع العملاقة وتتم مراقبتها عبر النظم الرقمية بما في ذلك نظم التعرّف على الوجه والجلد. هذه المصانع الجديدة هي حظائر مُكيفة تراقب فيها الآلات الرقمية هذه القطعان وتتبعها في كل حركة وفي كل إنتاج، وكل جرعة حليب يُمكن تتبع مصدرها.
يتعدى الأمر المراقبة، ففي عام 2019 وفي مزرعة روسمولوكو البحثية بالقرب من موسكو، رُبطت سماعات الواقع الافتراضي بالماشية واقتيدت الأبقار عبر الرسوم الرقمية التي عُرضت أمام أعينها لتجعلها تتخيل أنها تسير في حقول الربيع المشرقة بدلا من الحقول الشتوية الكئيبة. وكان هذا الاختراع الذي بدا ناجحاً قد صُمم لإزالة الإجهاد، فكلما هدأت الأبقار زاد إدرار الحليب.
البقرة المرتدية لنظارات الواقع الافتراضي أمر مضحك بقدر ماهو مأساوي، فثمة خوف أيضا في أن ذلك ينبئنا عن مستقبلنا المُغترب، وفي محصلة الأمر، كيف ستختلف تجربتنا؟ إننا نستسلم لمن يتعقّب عواطفنا، ونسجل دخولنا إلى آلات ذات تغذية بيولوجية راجعة، ونسجل في مواقع تتابعنا وتطاردنا، ونسمح لأعين المعلنين أن تراقبنا باستمرار وأن يخزّن رسامو الخرائط إحداثياتنا.
هل سنكون مثل الأبقار موضع التلاعب من قبل الآلة، وأن تتأرجح مشاعرنا على الدوام تحت سطوع الشمس من دون أن ندرك أننا داخل منظومة؟ هل سيُخدع المنبوذين والعاطلين والفائضين عن الحاجة باعتقادهم أن العالم جميل وهو أرض الحليب والعسل أثناء نشاطهم المحدود في دور الرعاية المتواضعة؟ لعلنا نجول قريباً في المراعي الجديدة للدكتاتورية الرقمية لنمرح ونحن مقيدون.
إن فكرة الطبيعة بوصفها أمراً خارجياً، خيّراً ومواسياً لنا، قد تكون جزءاً من المعضلة. لاحظ ثيودور أدورنو في كتاب (النظرية الجمالية) وهو الفيلسوف الألماني والناقد الثقافي العظيم لمنتصف القرن العشرين: كيف أن الطبيعة التي تجنّبت الزراعة البشرية – كجبال الألب وأراضي القمر- تشبه الأشكال غير الطبيعية لجبال النفايات الصناعية وهي مخيفة بشكل مماثل.
وفقا لأدورنو فإن الطبيعة الشاعرية، البكر، الجميلة، لها علاقة بأخلاقيات القمع الجنسي أكثر مما هي عليه الطبيعة أو ما قد تكون عليه. وضدًا لهذا الإصرار على أن الطبيعة تُحمى من اغتصاب التقنية لها، يُجادل أدورنو لعل التقنية تمكّن الطبيعة من الحصول على “ما تريده” على هذه الأرض الحزينة، ونحن مشمولون في ذلك.
الطبيعة في واقع الأمر ليست مجرد أمر خارجي نعمل ضمنه ولكنها أيضاً بداخلنا. نحن أيضاً طبيعة. كتب الشاعر الرومنسي الألماني يوهان وولفجانج فون جوته “ذرفت عيناي الدموع” و “أيتها الأرض.. إنني عائد إليك”. أخذ أدورنو مشاعرنا الغامرة عند مواجهتها لجسامة الطبيعة الجامحة بوصفها دلالة وعي لماهيتنا الطبيعية. إن ما هو جليل أثناء مواجهته في العالم أو في الفن، ليبعث فينا الشعور العارم والقشعريرة والدموع. يتم تذكير الأنا لدينا بترابطها مع العالم الطبيعي في سقوطنا وسط حطام النحيب، بأعين دامعة وذاهلة، فنصبح بنفس الوقت أكثر إنسانية وطبيعية.
بالنسبة لشخص ارتبط بغموض الموسيقى الطلائعية والنظرية النقدية، كان أدورنو عاطفياً على نحو مفاجئ حين يتعلق الأمر بالحيوانات، حيث شعر بارتباط قوي معها، فبمعيتها عثر على ما يستحق أن يدعى باليوتوبيا. تخيل أن الوجود الإنساني الملائم في فعل لاشيء، مثل الحيوان الضاري، فيرتاح وينظر لما حوله بضبابية ويمضغ ويجتر بلا تفكير.
أن تحلم كما فعل الكثير من الطوباويين بإنتاج لامحدود من السلع، وبالنشاط المنشغل في مجتمع مثالي، هو ما يعكس وفقاً لزعم أدورنو عقلية متجذرة في الإنتاج بوصفه غاية بحد ذاته. عندما ننفصل عن صياغتنا التاريخية المتكيّفة فقط مع الإنتاج، وأن نعمل ضد العمل نفسه، وألا نقوم بشيء في مجتمع حقيقي نحتضن فيه الطبيعة وأنفسنا كطبيعيين، فإن هذا هو ما قد يوصلنا إلى الحرية.
إن رفض فكرة الطبيعة بوصفها شيئا يحمينا ويمنحنا السلوان، سيكشف أننا مرتبطون ومنبثقون من الطبيعة. ومن هنا قد نشرع في إنقاذ أنفسنا مع كل شيء آخر.
الكاتبة: إيستر ليزلي هي أستاذة الجماليات السياسية في كلية بيركبيك بجامعة لندن، ومؤلفة كتاب “البلورات السائلة: علم وفن الشكل السائل”.
المترجم: طريف السليطي مؤلف ومترجم سعودي.
المُراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
?Are We the Cows of the Future
Esther Leslie
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”