“كان خالد الحسن يخبرني باستمرار أن الفلسفة ماتت. قالها بطرق مختلفة. كان متألما على خلاف صديقي الأول. كنت فقط أناديه ليجلس بجانبي. كنت أطلب منه شيء من الوقت في حضرة الموت. كأنني أقول إن موت الفلسفة لن يغيّر من الأمر شيئا.” –موت الفلسفة وسؤال الموت، عبد الله المطيري
مقدمة:
توجد مقاربتان للنظر في موت الفلسفة الأولى هي المقاربة القديمة ما وراء الفلسفة التي تنظر في طبيعة الفلسفة وفائدتها فموضوع بحثها هي الفلسفة وهذه المقاربة تطرقت لها في بعض كتاباتي. أما مقاربتي الجديدة هي دراسة موت الفلسفة التي سوف اسميها بالحتفيّة من حَتْف؛ وهي التي تجعل من موت الفلسفة موضوعًا للبحث وسوف تكون هذه المقاربة هي المنهج المعتمد في المقالة، وخلالها نناقش ونفهم ونحلل ونعالج موت الفلسفة، ومنها نستنتج فهم جديد للفلسفة كخبرة عملية متراكمة.
موت الفلسفة:
الفلسفة حيّة وميّتة، قد يكون هذا الوصفُ متناقضًا منطقيًا ولكن الجهة هنا مُنفكة. الفلسفة حيّة بتعاطي الفلاسفة معها وكونها ميّتة لأنها لم تعد تعطي أي شيء في آخر ثلاثة قرون، فهي ميّتة في فراش كانط؛ فهذا هو الإحراج الفلسفي الذي ذكره يزيد في مقدمة مقالته:
“لا شك أن الحياة المعاصرة قدمت الكثير من النماذج التي تضع الفلسفة في زاوية لا مفر منها وهي “لم تعد للفلسفة قيمة”. إنّ أكثر نموذج يُحرج الفلسفة هو العلم التجريبي.”1
وقد عبر المطيري أيضًا عن هذا المأزق الفلسفي في سؤال العزاء:
“إذا كانت الفلسفة هي من تعطينا العزاء فمن الميّت هنا ومن الحيّ؟”2
فكيف نتعاطى مع شيء ميّت على أنه حيّ؟، الفلسفة هي الوحش الفرانكشتاني فهي جثة ميّتة ولكنها حيّة ومتحركة وتنمو ويمكن التعاطي والتواصل معها؛ فيروس أصاب الفلسفة وحولها لهذا الوحش فهو حيّ من جهة وميّت من جهة أخرى:
“يبدو أن الوقت قد فات لتأبين الفلسفة فكلام الصديق يشير إلى أنها ماتت منذ عقود بعد أن قتلها العلم. الآن فقط أنتبه إلى أن الفلسفة ماتت مقتولة. “3
موت الفلسفة لم يكن بسبب الضربات العلمية، فالعلم ليس هو القاتل، بالرغم من تأثيرها القوي على التفكير الفلسفي وأنساقها ولكنها لم تقتل الفلسفة؛ وكذلك العلم لم يقتل الكُليات الفلسفية ومفاهيمها، كما في ملاحظة يزيد:
“العلم الحديث قتل الكليات تمامًا”4
الذي قتلها هو النتائج العدمية للفلسفة المعاصرة، هذه الطفرة الفيروفلسفية الكامنة ظهرت منذ فجر الفلسفة في العصر التراجيدي زمن ما قبل سقراط مع السفسطائية وهي ميلاد العدميّة، وملاحظتي هذه معادية وضد القراءة النيتشويّة، فهذا الشيء الدخيل على الفلسفة مازال كامنًا فيها، وعلى مر عصور الشكوكية تنشط فيها قليلًا وتخفت، حتى نشطت وظهرت بالكامل في زمننا المعاصر، الزمن الذي هيمنت فيه العدميّة في المعرفة والحياة. مما تحولت الفلسفة في-الجسد إلى الفلسفة في-الجثمان وهذه نتيجة غير طبيعية لهذا التحور الفيروسي العدمي الذي أصاب الفلسفة وتطفرت إلى كائن مشوه غريب وحش فرانكشتاني وهي حالة من التجثمن الفلسفي.
معضلة المطيري في سؤال الموت:
المعضلة التي يطرحها المطيري حول موت الفلسفة باستدعاء علاقتنا بالموت نفسه:
“لا يبدو لي أن قضية موت الفلسفة هي قضية مع الفلسفة بقدر ما هي قضية مع الموت. ربما أنها تستدعي مراجعة علاقتنا مع الموت أكثر من استدعاء علاقتنا مع الفلسفة.”5
الحتفيّة تُجيب على هذه المعضلة، فهي دراسة موت الفلسفة، وتدرس علاقة الموت مع الفلسفة، أما دراسة الفلسفة منفصلة عن الموت فهذه تقوم به المدراس الفلسفية المختلفة. وفي المقابل دراسة الموت منفصلًا عن الفلسفة فهذه تجدها في دراسات علم الموت – ثاناتولوجي-. فإذًا علاقتنا بالحتفيّة هي علاقتنا بموت الفلسفة.
ولكن هل الحتفيّة فلسفة؟
الحتفيّة هي نزعة ما فوق فلسفية لا تدرس الفلسفة نفسها، فالذي يدرسها هو ما وراء الفلسفة -ميتا فلسفة- فهو الذي يبحث عن طبيعة الفلسفة وفائدتها أما الحتفيّة فهي تدرس موت الفلسفة؛ فقد تكون بالمعنى الواسع للكلمة فلسفة مثل أن ما وراء الفلسفة هي فلسفة الفلسفة، ومثل أن ما فوق الجينات يندرج في علم الجينات، وهذا لا يمنع إن مع تطورها قد تنفصل وتكون معرفة مستقلة كالذي حدث مع العلوم الطبيعية واستقلاليتها عن الفلسفة، رغم كونها في الماضي مندرجة تحت الفلسفة المُسمى بأم العلوم.
المطيري يرى أن الفلسفة كونها ميّتة أمرًا طبيعيًا وهذا لا يغير شيء:
“الفلسفة لم تكن واقعا حيّا في يوم من الأيام. لا يزال أفلاطون يمشي أمامنا في كثير من القضايا رغم أنه قد مات منذ ألفين وأربعمئة سنة.”6
صحيح أن الفلسفة ميتة ولكن موتها أمر غير طبيعي، لأن الفلسفة كانت حيّة ومُصابة بداء كامنٍ فيها، ولم تنشط بصورتها الكُلية إلا متأخرًا. فالوحش الفرانكشتاني غير طبيعي فهو شيء ميت ثم أصبح حيًّا والفلسفة كانت حيّة ثم أصبحت ميّتة؛ الوحش الفرانكشتاني قبل أن يكون وحشًا كان إنسانًا حيًّا، فتحول من إنسان إلى لا-إنسان من شيء طبيعي إلى غير طبيعي؛ والفلسفة أيضًا تحولت من شيء طبيعي إلى غير طبيعي، ولكن هل هذا يعني أنها انتقلت من الفلسفة إلى لا-فلسفة؟ هذا السؤال تُجيب عليه المقاربة القديمة ما وراء الفلسفة، فهي القادرة على مناقشة هذا النوع من الأسئلة والفرق بين الفلسفة واللا فلسفة. إذ موت الفلسفة أمر غير طبيعي بعكس المطيري الذي يراها أمرًا طبيعيًا.
هذه المفارقة تتجه لمفهوم الموت نفسه، فالموت والحياة أمور طبيعية، ولكن لا تتجه لموت الفلسفة، لأن موت الفلسفة نفسه أمر غير طبيعي، وهذا ما لاحظه المطيري في طيات كلامه حول الموت:
“الموت فراغ يقف بين الإنسان والكلام. يبدو أنني لم أعد أدرك معنى أن تموت الأشياء. هذه الفلسفة بين يدي كنت أعتقد كل هذه السنوات أنها حيّة فيني وأنا حيّ فيها. كنت أعتقد أنني أتنفسها وتتنفسني… هل نتنفس الموتى؟”7
الأصل الطبيعي في الفلسفة هي حياتها لا موتها، والحياة أمر إيجابي بخلاف الموت فهو سلب للحياة؛ ولكن قد يقال أن الحتفيّة تدرس ظاهرة عبثية، حتى لو تنزلنا وقلنا أن موت الفلسفة ظاهرة عبثية، فالواقع ينفي العبثية عنها فهي ظاهرة غارقة في الواقعية، والكثير ينتصر لهذه الظاهرة؛ وأما الذي لا ينتصر لها فتجده يتداولها ويناقشها ويتعاطى معها كبعض المتفلسفة السعوديين: كعبد الله المطيري، يزيد بدر، شايع الوقيان، خالد الغنامي، عبد الله الغذامي، وغيرهم. إن كان الموت حقيقة، فموت الفلسفة أيضًا حقيقة، وهذا ما تثبته الحتفيّة، ولكيلا تكون مصادرة على المطلوب، فنستعير نموذج يثبت حقيقة الموت وهي الذرية الفوضوية:
“في حقيقة الأمر “الضحك” يأتي متأخرا بعد أن يبدأ الإنسان معركة البحث عن الحقيقة والمعنى يصطدم بجدار الفراغ والذي يعني أن هناك حقيقة وهي “الموت” وتطور الكائنات الحية والعالم بإستمرار(هذا التطور البيولوجي والفيزيائي أحد ركائز الذرية الفوضوية).”8
ومكمن الخلاف بيني وبين المطيري ويزيد هو في كون الموت عندهما أمرًا طبيعيًا في كل الأحوال؛ ومحل استغراب المطيري من تعامل يزيد مع موت الفلسفة بسبب الكينونة الضاحكة أي الضحك كتقنية للعيش:
“حين أخبرنا الصديق عن موت الفلسفة كان يزيد بدر معنا. لم يكن يزيد متفاجئا أيضا. كان يضحك فهل تصالح مع الموت أم أن الموت أصبح يضحكه؟ ربما كان يزيد يضحك علينا لا على موت الفلسفة.”9
والضحك لم يكن على المتفلسفة أو على موت الفلسفة بل الضحك مع هذا الواقع الصلب لموت الفلسفة فهي الصرخة الأخيرة مع هذه الحقيقة كما وصفها يزيد:
“الذي يهم في سياقنا هذا بيان أن “الضحك” موقف يُتخذ عند بلوغ نقطة ما من البحث والتقصي “للمعنى الأخير” لهذه الحياة، الضحك بمثابة الصرخة الأخيرة لكل واقعٍ صلب أي ميتافزيقا الواقع.”10
وتقنية العيش سوف تقف وجهًا لوجه أمام الموت، وتحديدًا موت الفلسفة، بجعل الفلسفة طريقةً وفنًا للعيش وهذه المحاولة عند يزيد قادرة على إنقاذ الفلسفة من براثن الموت:
“الخلاصة أن المعنى الأخير للفلسفة هو أنها طريقة وفنٌ للعيش غايتها تحقيق السلام والسعادة، وبهذا المعنى ننقذ الفلسفة من موتها وننقذها من تلك الرؤى المملة التي تحصرها في التحليل اللغوي والمنطقي. على الفيلسوف المعاصر أن يجمع كل ما يمكن، وأن يحترم تغير العلم المستمر، وبذلك عليه أن يُشيد سرديات جديدة تتناسب والعصر الذي نعيش فيه.”11
ولكن كيف ننقذ شيئًا ميتًا أصلا؟ العيش هو الحياة والفلسفة أصبحت ميّتة فهي تُعادي الحياة، فيستحيل العيش مع وحش فرانكشتاني لأنه لا يعرف العيش، وكل ما يعرفه هو الموت.
الفلسفة ماتت والفلاسفة هم من قتلوها، وهذا هو الواقع المُر الذي حكاه المطيري:
“الفلاسفة هم من قتلوا الفلسفة وليس العلماء كما يقول صاحبي. والعلماء هم الفلاسفة الجدد، هم ورثة الفلسفة. هل هذا يعني أن الفلسفة ستعود للحياة؟”12
هل ما حكاه المطيري عن خروج الناس مسرعين من المحاضرات الفلسفية وقلة حضورهم لأنها أصبحت مقبرة، وهل هذا سبب مغادرة الوقيان سريعًا من أجل استئناف الفينومينولوجيا، لأنه لا يريد أن تموت الفلسفة:
“ما هذا المكان الذي أنا فيه.. قاعة محاضرات الفلسفة.. هل هو بيت للتحنيط أم مقبرة … قد يفسّر هذا الهدوء العميق في هذا المكان .. وربما يفسّر كذلك زيارة الناس في فترات محددة من الشهر.. يأتون لساعة أو ساعتين ثم يرحلون .. ربما هذا هو السبب كذلك لقلق شايع الوقيان ومغادرته السريعة للمكان فهو يخاف من الموت ولا يحب المقابر.”13
فهل هذه نهاية القصة، هل انتصرت العدمية، هل انتصر الوحش الفرانكشتاني، هل كل ما قلناه مجرد عبث؟
أم يوجد أمل على لسان المطيري بأن الفلسفة قد تعود للحياة، وجواب الموت هو السؤال عن الحياة؟
نظرة وزاوية جديدة للدراسات الفلسفية:
يوجد أجوبة كثيرة على أزمة موت الفلسفة، قدمت في مقاربتي القديمة منهج جديد مستنبط من بحوث أبي حامد الغزالي، وسميتها (بالمنهج الجدلي عند الغزالي وتطبيقاته على الفلسفة المعاصرة)14 وهذه المقاربة تعتمد على ما وراء الفلسفة، معتمدًا فيها النقد الخارجي، المستنبط من تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية؛ هذا المنهج يعتمد النقد والنظر في المناهج والأفكار الأخرى.
ومقاربة أخرى عالجت فيها هذه الأزمة ولكن من داخل الفلسفة، النقد يتجه لكانط وما بعده؛ سميتها (بمقدمة جديدة في أسس نظرية المعرفة)15 هذا النقد يدافع عن وجود قضايا تركيبية وقبلية مستندة على مبدأ عدم التناقض بخلاف كانط الذي يعتمد على ضرورة أضعف غير مستندة على مبدأ عدم التناقض في القضايا التركيبية القبلية كالرياضيات؛ كما أن فريغه نقد كانط في هذه الجزئية حول الرياضيات وتحديدًا أسس علم الحساب بأنها تحليلية، وأما نقدي عليهما بأن الرياضيات ليست كلها تحليلية أو تركيبية، بمعنى قد تجد في نظرية الأعداد والهندسة جزء منهما تحليليًا والآخر تركيبيًا، وهي نتيجة التطورات الحاصلة في البحوث الرياضية، كما إنني نقدت كارناب في أسسه الفيزيائية وتقسيماته الهندسية لرياضية وفيزيائية، ويرى أن الهندسة الرياضية ليست ضرورية وأزعم بأن بعضها ضروري والآخر ممكن وتندرج تحت القضايا التركيبية القبلية؛ بالإضافة إلى نقدي لبعض تصورات الفلسفة المعاصرة وهو خلط مشهور ما بين الذاتي والموضوعي، وتقسيمي لما هو ضروريّ معرفيًا وضروري ميتافيزيقيًا عند نقدي لكريبكي حول القضايا البعدية.
مازال الأمر غير كافيًا ونحتاج المزيد، فهذا تمهيد لضرورة وحاجة إثراء المكتبة والفكر العربي حول هذه المجادلات وإضافة المزيد من هذه الأفكار ومن المهم مناقشتها.
يوجد مَن حاول معالجة أزمة موت الفلسفة بطريقة مباشرة وأكثرهم بطريقة غير مباشرة، وسوف أناقشها من أجل توضيح أهمية المجادلة والمناقشة بين الأفكار، وهي زيادة على المناقشات السابقة، وسوف أُفصل أكثر حول طبيعة الفلسفة.
ظاهرة الفينومينولوجيا السعودية:
أشهر من ينتصر لهذا المنهج سواءً في المحاضرات أو المؤلفات هما عبد الله المطيري وشايع الوقيان، سبق ونقدت هذه المنهجية عند مناقشتي لهما. تجدها في (نقد التنظيرات التأملية عند عبد الله المطيري في فلسفة الآخرية)16، وهي تعتمد مقاربة ما وراء الفلسفة -ميتافلسفة-؛ أما مع الوقيان في (هل طائر العنقاء موجود؟)17، فقد أعتمدت فيهما على المنهج المنطقي والآخر المنهج الجدلي (الغزالي-الحسن)، عند مناقشتي فلسفة الوجود والوعي. ويوجد نقد آخر للفينومينولوجيا ونجده عند يزيد بدر، ولكنه ليس حوارًا مباشرًا مع طرح المطيري والوقيان، بل النقد يبدأ من عند هوسرل؛ فنقد فيها بعض المقولات الميتافيزيقية كالثنائيات الصلبة ومنها مقولاتيّ النومين والفينومين، وانتصاره للطبيعانية الذرية مقابل الموقف الفينومينولوجي.18
وأما في الغرب فقد صرح توم سبارو بنهايتها ونقدها لأنها تعتمد على مركزية الإنسان والارتباط أو العلاقة بين الفكر -الوعي- والوجود، والبديل عنها هي الواقعية التأملية.19 حتى لو قلنا أن الفينومينولوجيا السعودية استطاعت تجاوز هذه النقودات باستئناف الفينومينولوجيا كما عند الوقيان عن طريق النومينولوجيا، فهي غير كافية لوحدها في مواجهة أزمة موت الفلسفة.
ينتصر يزيد لطرق العيش والحياة الطيبة والدراسات الحياتية المعاصرة، وأن الحياة المعاشة هي الأمر الواقع؛ ولكن الفلسفة ليست طرق عيش فقط بل عليها أن تكون أكثر من ذلك، فهي أيضًا ليست حلًا كافيًا لهذه الأزمة؛ كما أن الكُليات الفلسفية لم تنته فمازال العلم نفسه يحاول البحث فيها أو في جزءٍ منها. لا يوجد تعارض حقيقي بين المزاج العلمي والفلسفي في عصر السفسطائية، فكانت تصوراتهم لأصل الأشياء هي العناصر كالماء والنار وغيرهما، وهذا العلم القديم؛ أما في العلم الحديث أصبحَ أصل الأشياء هو ما يُشكل النسيج الكوني كالأوتار الفائقة، فعند طاليس كان الماء هو أصل الأشياء وهذا طرح علمي مع أن أسسها فلسفية وميتافيزيقية؛ وسبب انفصال العلم عن الفلسفة هو الفيروس العدمي الذي أفسدها وكان كامنًا فيها منذ زمن طاليس، وظهرت الشكوكيّة، والعدميّة، والنسبيّة السلبيّة، وجعلها وحش فرانكشتاني فصارت فلسفة في-الجثمان؛ فيجب استئصال هذا العضو الفاسد أو دفن الوحش الفرانكشتاني واستحضار نسق جديد، وهذا لا يعني التخلي عن الموروث الفلسفي القديم والمعاصر بل التعامل معه بحذر شديد.
فهم جديد للفلسفة كخبرة عملية متراكمة:
الخبرة العملية المتراكمة فهي جواب موت الفلسفة؛ لأنها الفعل الفكري الوحيد القادر على تجاوز أزمة موت الفلسفة، فهي تنظر في الأفكار المختلفة وتحللها وتناقشها ومن خلال هذا الفعل نخرج بجواب أو سؤال يحفز فيه التفكير لإعادة البحث والنظر. في البدء ناقشنا جُملة من الأفكار المختلفة حول موت الفلسفة، وهذه الأفكار ناقشت أفكار سابقة ومختلفة وهكذا سلسلة تراكمية، وهذا المراد من الخبرة العملية التراكمية من الأفكار أو ما فوق الأفكار ومنها نخرج بأفكار جديدة ويتم مناقشتها فيجري عليها نفس الفعل الفكري من تحفيز لهذه الخبرة العملية المتراكمة.
عندما عَرَّفنا دراسة موت الفلسفة بالحتفيّة، وأن الفلسفة أصبحت وحش فرانكشتاني؛ استطعنا أن نفهم المشكلة ونتعامل معها بشكلٍ جيد؛ فمجموع هذه الأفكار المختلفة التي تُناقش بعضها البعض هي روح الفلسفة ومنها تنبثق أفكار جديدة أخرى.
فينومينولوجيا الآخرية والضيافة عند المطيري، نيومينولوجيا الوعي الذاتي والوجود الواجب عند الوقيان، الذرية الفوضوية والطبيعانية الذرية، والدراسات الحياتيّة عند يزيد بدر، بالإضافة لمقارباتيّ القديمة مع الجديد منها: الحتفيّة وفلسفة الخبرة العملية التراكمية. وهذا جزء من النقاش الفكري محليًا مع الحاجة لتوسيع هذه الدائرة عربيًا ثم عالميًا، لأن الأفكار والنقاشات المتراكمة قادرة على تجاوز موت الفلسفة أو أي أزمة تمر بها الفلسفة.
ما الفلسفة؟:
الفلسفة هي توليد وصناعة الأفكار ومناقشتها بين المفكريين والأقران. فهي ليست صناعة المفاهيم كتعريف جيل دولوز لها، لأن كل المعارف قادرة ذاتيًا على اختراع مفاهيمها وإحدى أسباب بزوغ العلم التجريبي هي الفلسفة فتجدها وراء بزوغ أي نجم معرفي لأنها تعتني بصناعة ونضوج الأفكار ونقاشها؛ وعند غياب هذا النشاط الفكري تموت الفلسفة لأن عندها تتوقف صناعة الأفكار ويجمد النقاش فيموت فيه الفكر. الفلسفة بالمعنى الجديد تطعن في دعوى مارتن هايدجر ونهاية الفلسفة وكونها مُكتملة والذي صب فيه كل تركيزه على مهمة التفكير، الخبرة العملية تُعادي دعواه لأن الفلسفة لم تنته بعد، فالفلسفة هي بداية الفكر والتفكير الأصيل -البدئي-، فإذًا الفلسفة لم تكتمل ولن تكتمل لأنها نشاط متراكم ومستمر، فلن تنتهي صناعة الأفكار من تأسيس ومناقشة إلا بنهاية الفكر وموتها هو موت الفكر.
العلم الطبيعي المعاصر ليس لديه القدرة على أن يأتي ويصنع أفكار كثيرة مختلفة تتناقش وتتنازع فيما بينها بشكل مستمر ومتراكم؛ أفكار تذهب وأفكار تأتي، أفكار تنشط وأفكار تذبل؛ إلى اليوم نجد أكثر من محاولة لإحياء فلسفات قديمة السفسطائية، سقراط، أفلاطون، أرسطو ولكن بطريقة عصرية ومعاصرة، ونرى محاولات لإعادة الرواقية والإبيقورية بحلّة جديدة، وغيرها من فلسفات الحياة القديمة لأنهم وجدوا غايتهم الفكرية فيها، وتجاوبها مع عصر السرعة؛ وقد تكون الرواقية المعاصرة أكثر حظوة وانتشارًا من الرواقية القديمة التي كانت في عصر اليونان والرومان؛ فالرواقية وصلت حتى للرجل العادي وهذا القياس على جميع الأفكار القديمة التي تعود ولو بشكل مُعدل وجديد يوافق روح العصر، وحتى إن عادت بهيئتها القديمة يجب أن تواجه التغيرات الحديثة وتصمد أمامها؛ وكل هذا يتم بمناقشة هذه الأفكار وتحليلها وتقديمها للناس.
في الختام الإنسان كائن مفكر ويحتاج لمناقشة الأفكار وعندما يناقش نفسه بدون كيانات أخرى قد يصاب بالجنون، فهو كائن مفكر واجتماعي بالضرورة ويحتاج لمفكرين يتجاذب ويتناقش ويختلط معهم فكريًا واجتماعيًا وهذه تكون بمناقشة الأقران.
المصادر:
1- المعنى الأخير للفلسفة، يزيد بدر
https://mana.net/the-last-meaning-of-philosophy
2- موت الفلسفة وسؤال الموت، عبدالله المطيري
3- المصدر السابق.
4- المعنى الأخير للفلسفة، يزيد بدر
5- موت الفلسفة وسؤال الموت، عبدالله المطيري
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.
8- الضحك والخطيئة، يزيد بدر
9- موت الفلسفة وسؤال الموت، عبدالله المطيري
10- الضحك والخطيئة، يزيد بدر
11- المعنى الأخير للفلسفة، يزيد بدر
12- موت الفلسفة وسؤال الموت، عبدالله المطيري
13- المصدر السابق.
14- المنهج الجدلي عند الغزالي وتطبيقاته على الفلسفة المعاصرة، خالد الحسن، المجلة السعودية للدراسات الفلسفية ع1 (2021): 93 – 108
15- مقدمة جديدة في أسس نظرية المعرفة، خالد الحسن، مقابسات، العدد 1، أغسطس 2022
16- نقد التنظيرات التأملية في الفلسفة (مناقشة فلسفة الآخرية عند عبد الله المطيري)، خالد الحسن
نقد التنظيرات التأملية في الفلسفة (مناقشة فلسفة الآخرية عند عبد الله المطيري)
انظر مناقشة المطيري لمقالتي السابقة: مع خالد الحسن عن الوجودية والتأمل في الفلسفة، عبدالله المطيري
17- هل طائر العنقاء موجود؟ (في نقد تصور شايع الوقيان للوجود)، خالد الحسن
هل طائر العنقاء موجود؟ (في نقد تصور شايع الوقيان للوجود) خالد الحسن
18- الميتافيزيقا نحو إبستمولوجيا طبيعانية. يزيد بدر، منيرفا، 6(2)، (2024): 37-69
https://asjp.cerist.dz/en/article/236201
19- The End of Phenomenology: Metaphysics and the New Realism, Tom Sparrow, Edinburgh: Edinburgh University Press (2014)