عبدالله الغانم
وكنتُ أظن كل الظنِ أني
بجهلي أمتطي درب السعادة
أذابَ العِلم ألواني وزهوي،
وألغى من قناعتيَ السيادة
وأبدا العالمَ الزهريَ وحشًا،
وما أخفى الجنين ولا معاده
فذقنا البؤس حينًا ثم ولى،
فزانتْ -بالحياد لنا- زيادة
فذُق طعمَ الحلاوةِ بعد مرٍ،
فلا تحلو الحياةُ بذي البلادة [1]
منذ الوهلة الأولى، تجمع هذه الأبيات بين دفء الحلاوة ومرارةٍ مباغتة؛ إذ يكتشف الشاعر أنّ «الجهل» الذي ظنّه ميدانًا للسعادة ليس إلا وهمًا يتبدد أمام «العلم». ومن ثمّ ينكشف وحش العالم تحت قناعٍ ورديّ، فيذوق الشاعر البؤس، قبل أن ينزاح إلى حيادٍ تتبعه حلاوةٌ جديدة. وكأننا أمام لوحةٍ تتدرّج في الألوان ــ من بهجةٍ ساذجةٍ إلى وعيٍ مُقلِق، ثمّ إلى حالة تسليمٍ يتيح رؤيةً أعمق للوجود.
هذه الأبيات تذكّرنا بمراحل تشبه منحنيات الإنسان مع المعرفة: ابتهاجٌ أوليّ، فصدمةٌ مريرة، ثمّ إعادة تقييمٍ للذات وحالٍ من الرضا النسبيّ أو الحياد. من هنا، نخطو إلى الأسئلة الوجودية الكبرى التي طالما أرّقت البشر. فهنا يمكننا أن نستذكر شخصية “فاوست” في الأدب الغربي، الذي باع روحه في سبيل المعرفة، ليكتشف أن العلم يمكن أن يقود إلى صراعاتٍ داخليةٍ وأخلاقية. وكأن الأمان الساذج الذي عوّل عليه الشاعر بدأ يتلاشى بعد اصطدامه بخبراتٍ معرفيةٍ جديدة. وما أن نشاركه هذا الشعور حتى يفاجئنا بحديثه عن البؤس ومروره المؤلم في حياته، قبل أن ينسحب مخليًا الساحة لحيادٍ غامضٍ؛ لتذوقٍ مستجدٍّ للحلاوة لا تكتمل صورته إلا بعد أن ذاق المرارة.
في هذا المشهد المكثف، يبدو الشاعر وكأنه ينصّب نفسه شاهدًا على تجربةٍ كونيةٍ مترامية الأطراف؛ تذكّرنا بسعي الإنسان الدائم نحو «السعادة» من جهة، وبالتحديات الحتمية التي تواجهه من جهةٍ أخرى. ولعل هذا المسعى لا يبرز في صيغته الفردية وحسب، بل يمتدّ لينعطف على سؤالٍ مؤرِّقٍ حلو: «أي حياة تستحق أن تعاش؟» أو «كيف يمكننا القبض على معنى وجودنا؟» أسئلةٌ بدورها ليست وليدة زمننا الحاضر فحسب، بل هي قديمةٌ قدم الفكر البشري؛ إذ كانت مدار انشغال الفلاسفة والمتصوفة والمفكرين عمومًا.
لكن الفرق أن الإنسان «ما قبل الحديث» -كما يقال- لم يكن يعرف هذه الأسئلة الوجودية في صياغتها المُقلِقة التي نعرفها اليوم؛ فقد كان منهمكًا بتدبير شؤونه المادية والعيش في نطاق بساطةٍ تمليها عليه ظروفه المحدودة، ولم تدخل في حيز اهتمامه تلك القضايا الفلسفية الكبرى عن «جدوى الحياة» و«مغزى المعنى». لقد كان تركيزه على النجاة وتأمين الحاجات الأساسية مثل الغذاء والمأوى، بينما الإنسان الحديث يتساءل عن مكانته في الكون ودوره في صياغة المعنى. وما أن دخلنا عصر الحداثة وما بعده، حتى انقلبت الصورة؛ توسّعت الآفاق المعرفية، وتقدّم العلم بما يسمح باكتشاف العوالم المجهولة، فتفجّرت أسئلةٌ وجوديةٌ مرهقة تتشابك فيها معضلاتٌ علميةٌ وأخلاقيةٌ ودينيةٌ وثقافيةٌ، لتخلق حالةً من القلق وعدم الاستقرار.
إنّ هذه الأبيات تُعيد إلى الأذهان ما أشار إليه نيتشه عن «الأوهام» التي يحتاجها الإنسان لتلطيف قسوة الحقيقة. فحين يذيب العلم «ألواننا» وزهوَنا، قد تكون الأوهام بمثابة مهربٍ مؤقتٍ يعوّضنا عما نفقده من سكينة. لكنّ من ناحيةٍ أخرى، يرى نيتشه أيضًا أنّ بوسع الإنسان -في لحظاتٍ معينةٍ من الوعي المتمرد- أن يتخفّف من تلك الأوهام ويواجه العالم بصراحته المرعبة؛ ليعيد صياغة القيم أو يبتكر قيمًا جديدةً تناسبه. على سبيل المثال، يمكن ملاحظة هذا التمرد في الحركات الفكرية التي ظهرت في أعقاب الحربين العالميتين، حيث رفضت الأجيال الجديدة القيم التقليدية التي لم تمنع الدمار، وسعت إلى تبنّي قيمٍ إنسانيةٍ أكثر شمولًا وعدالة.
وهذه الجدلية -بين الحاجة إلى الأوهام من جانبٍ والتمرد عليها من جانبٍ آخر- تندرج تحت سياقٍ أوسع مرتبطٍ بالسؤال الفلسفي الأبرز: «من نحن؟» و«لمَ نحن هنا؟» و«ماذا نصنع في هذه الحياة؟» وهي ليست أسئلةً بريئةً على الإطلاق؛ إذ يرتبط بها ميلُ الإنسان إلى تأكيد تفوّقه على بقية الكائنات، ليُثبت -من طرفٍ خفيّ- أنّه متميّزٌ عنها بالنوع لا بالدرجة، وأن له القدرة الذهنية واللغوية والروحية التي تخوّله للاستمرار في طرح هذه الأسئلة والتشبّث بها، ولو كانت المآلات مربكةً ومزعجةً.
إنّ هذا التحوّل الملحوظ يذكّرنا بما قاله نيتشه حين تحدّث عن حاجة البشر إلى «الأوهام» أو «الأصنام» التي تجعل الحياة ممكنة في ظلّ قسوتها. فمن ناحيةٍ، تبدو هذه الأوهام كأنّها مسكناتٌ تخفّف من حدّة المواجهة مع الواقع الصلب. فالأسئلة من قبيل: «لماذا نحن هنا؟» أو «ما الأصل؟» أو «أين المصير؟» تحمل في طياتها دلالاتٍ متشعبة، لا يمكن حصرها في منطوقٍ لغويٍّ محدود. بل إنها قد تواري رغبةً في الاستكشاف والشعور بالمغامرة، أو كسر الرتابة، أو حتى التباهي بالقدرة على اللعب باللغة نفسها. وكأن قيمة هذه الأسئلة لا تكمن في الإجابة القاطعة وحسب، بل في فعل السؤال ذاته بوصفه غايةً تتلذذ بالتعبير عن حيوية الوعي الإنساني.
لا غرو إذن أن نجد من يقرّ بأنّ الإنسان في مجمل تاريخه لجأ إلى ما قد يوصف بأنه «التحايل النفسي» الذي يوفر له منفذًا من القلق الوجودي. فالإنسان، حسب رؤيةٍ معيّنة، كائنٌ يحتاج إلى الأوهام الجميلة في مرحلةٍ، ويستطيع تحمّل الحقيقة الصادمة في مرحلةٍ أخرى. وبهذا المعنى، يبدو أن إبقاء الأسئلة الوجودية الكبرى معلقةً—مثل «ما الجدوى؟»—قد يكون شرًا لا بدّ منه، فهو يسهم في صرف الذهن عن انفجاراتٍ فكريةٍ أكثر رعبًا، ويوفر متنفّسًا يعوّض الإنسان عمّا قد يفقده من سكينةٍ لو كُشف له المشهد الكونيّ كاملًا أو تم حسمه مرةً واحدة.
لكن لننتبه إلى أننا حين نطرح مثل هذه الأسئلة بقصد استعراض القدرات العقلية واللغوية، قد نكون نفعل الأمر نفسه الذي حذّر منه فيتغنشتاين؛ أي الانجرار وراء المعنى الظاهري للعبارات واجتزاء المعنى الحقيقي العميق. فيفيدنا طرح الأسئلة ذات الطابع الوجوديّ في التعبير عن كينونةٍ تسعى باستمرار لتحديد مسارها. وحين نتأمل هذا كله، نجد صداه في الأبيات الشعرية لدى الأشبح؛ إذ يتذوّق الشاعر البؤس فترةً من الزمن، ثم يمضي ليكتشف حيادًا، ثم يعاود اكتشاف الحلاوة، في مسارٍ حيٍّ من المراجعة والمعاودة والتساؤل.
هنا، تلوح أمامنا الفكرة التي تكرّرها بعض التأملات الفلسفية والصوفية: إنّ الأسئلة ذاتها قد تكون غايةً لإظهار التفوّق الإنساني أو لإبراز قدرته على تغيير العالم أو تسمية الأشياء من جديد. فتلك الأسئلة يمكن أن نقرؤها لدى الإنسان بوصفها فعلًا من أفعال الخلق، لكنه خلقٌ لغويٌّ أو ذهنيّ. ويأتي التعقيب بأنّ هذا «الخلق» قد يقود إلى مشكلاتٍ أخرى؛ إذ يكتشف الإنسان في نهاية المطاف أن منح المعاني للأشياء – أو خلع القيمة عليها – يجعله في الوقت ذاته مسؤولًا عن عواقب هذا المنح وذاك الخلع. فقد يصبح العالم غامضًا على قدر ما نحاول توضيحه؛ لأنّ عملية التسمية تضيف طبقاتٍ فوق طبقاتٍ من التفسيرات والقراءات، فتعيدنا إلى حيرةٍ وجوديةٍ أخرى دون أفقٍ نهائي.
ولعلنا نرى هذا في مثالٍ بسيطٍ: الذهب معدنٌ نفيس، لكنه لم يكن ليمتلك هذه الصفة لو لم يقرّر الإنسان ذلك. فلم نسمع عن ديناصورٍ قتل أخاه طمعًا في الذهب! فهذه القيمة لم تكن قائمةً قبل ظهور الإنسان، وارتباطها بالثروة والسلطة له علاقةٌ باشتراطاتٍ اجتماعيةٍ وحضارية. بالتالي، فالقيمة التي نعزوها للذهب هي جزءٌ من مشروعنا البشري في خلق أو وهب المعنى للموجودات. وهذا الإنشاء أو «الاختراع القيميّ» يحمل في طيّاته احتمالاتٍ للتناقض والتعارض؛ فقد نراه نعمةً في سياق، ونراه نقمةً في سياقٍ آخر حين يتحوّل سببًا للظلم أو الصراع. إنها القدرة السحرية التي نملكها على إصدار الأحكام القيميّة، وفي آنٍ معًا هي مصدرٌ للقلق واحتمالات النزاع.
بطبيعة الحال، حين يحاول المفكرون في العصر الحديث وما بعد الحديث الإجابة عن سؤال: «أيّ حياة تستحقّ أن تُعاش؟» نجد تعددًا هائلًا في التصوّرات؛ فثمة من يركّز على اللذة البحتة بوصفها مقياس السعادة، وثمة من يذهب إلى الأخلاق القيميّة، وآخرون يعتنون بالمشروع العلميّ واعتبار المعرفة أصل المعنى، أو يفضّلون طريق التأمل والزهد، أو ينشدون التطوّر المادي بوصفه الدليل على أننا نحيا حياةً تستحق العيش. ويستغرب البعض من هذه التعددية، لكنها تبدو منسجمةً مع كوننا -كما يشير ابن عربي- محيطين بتنوّعاتٍ شتى، ونحمل في داخلنا الاستعداد للتقلّب بين تلك الخيارات. فليس من المستبعد أن يجتمع لدى شخصٍ واحدٍ رغبةٌ في النجاح المادي وفي الوقت عينه إحساسٌ يحتاج إلى رؤيةٍ روحيةٍ للوجود.
هناك ميلٌ إلى الاعتقاد بأنّ كل الأجوبة التي نقدّمها عن معنى الحياة تظلّ «مخاضًا ثقافيًّا» نابعًا من صلب العصر والبيئة، ومن طبيعة الإرث الفكري والدينيّ الذي نتربّى فيه. أي إننا لا نتلقّى إجابةً جاهزةً ونهائية، بل نُخضعها للتقويم بحسب مرجعياتنا وتقاليدنا وتحولات وعينا الجمعي. فمثلًا، في التراث الإسلاميّ، نرث مفاهيم مثل «المحبّة» و«التوحيد» و«عمارة الأرض»، مفاهيم نعيد قراءتها أو تكييفها مع أسئلةٍ حديثةٍ عن العولمة والتكنولوجيا والهوية وغيرها. وبهذا، تستمرّ الأسئلة وتتحوّل، ولا يمكننا الادّعاء بأنّها تنحسم إلى الأبد.
إذا كان ابن عربي يرى الإنسان كبرزخٍ جامعٍ بين المطلق والمحدود، فإنّ القصيدة تكرّس هذه الفكرة حين تصوّرنا متنقّلين بين «جهلٍ ناعم» و«علمٍ مقلق» وصولًا إلى «بؤسٍ» يعقبُه «حياد». وكأنّ الذات تعبر طبقاتٍ من النقائض دون أن تستقرّ، بما يعكس طبيعة «آدم الكونيّ» عند ابن عربي. مما يعكس حالته الفريدة بين الأبعاد الروحية والمادية. فإذا كان آدم -كما يراه ابن عربي- جامعًا للأسماء والمعاني، قادرًا على الانفتاح على أبعادٍ علويّةٍ من جهة والانغماس في الأرض من جهةٍ أخرى، فإنّ هذا يفسّر استمرارنا حتى اليوم في حركةٍ دائمةٍ أشبه ببحثٍ محمومٍ عن قبسٍ يضيء لنا الطريق. ولا غرابة أن نجد هذه الحركة منعكسةً بوضوح في الثقافة الشعبية المعاصرة؛ حيث تبرز معضلاتٌ كبرى كالبيئة والتفاوت الاقتصادي والصراعات السياسية. هذه البرزخية تبرز في الخيارات الأخلاقية التي يواجهها الإنسان باستمرار؛ فهو مطالب بتحقيق توازن بين المثالية المرتبطة بالحق المطلق والواقعية التي تفرضها الظروف المتغيرة. على سبيل المثال، قد يجد الإنسان نفسه أمام معضلة الاختيار بين التمسك بمبدأ أخلاقي سامٍ وبين اتخاذ قرار عملي يحقق نفعًا ملموسًا، وهو ما يعكس برزخيته ككائن قادر على التأرجح بين هذين القطبين دون فقدان هويته. هنا تتلاقى الفكرة مع المعنى السابق: لدى الإنسان استعدادٌ لتلقّي النفخة القدسيّة التي تستشعر المطلق، وإلى جانب ذلك هو كائنٌ ترابيٌّ ملتصقٌ بأرضه وحاجاته وغرائزه. إنه يواجه الأسئلة الوجودية لكونه جامعًا لنقيضين: الأعلى والأدنى، المحدود واللامحدود، النسبي والمطلق. وهذه البرزخيّة تسهم في تفسير نشاط الإنسان الدؤوب في طرح الأسئلة التي لا يتوقّف عنها، مثل سؤال: «لماذا أنا هنا؟» أو «كيف يمكن أن أجعل حياتي ذات جدوى؟»
ولا يتوقف الأمر عند المستوى النظريّ؛ بل يتسرّب إلى تفاصيل الحياة اليومية، حيث يواجه الإنسان خياراتٍ مصيريةً تكشف عن صراعٍ داخليّ بين قيمٍ متباينة. فهل يؤثر تأسيس أسرةٍ أم يتفرّغ لإنجازاته الشخصية؟ وهل يترك وطنه سعيًا وراء آفاقٍ ماليةٍ أوسع، أم يبقى حيث يشعر بالسكينة والانتماء؟ وهل ينغمس في أنماط الاستهلاك الحديثة أم يلتزم بنهجٍ زاهدٍ أكثر توازنًا؟ هذه الأسئلة، على بساطتها الظاهرية، تنطوي على جذورٍ عميقةٍ في طبيعة النفس البشرية؛ فهل نسعى إلى متعةٍ فورية أم إلى قيمةٍ أخلاقية، أم نطمح إلى منزلةٍ اجتماعية؟ وأيّ هذه الخيارات يضمن لنا «حياةً تستحقّ أن تُعاش»؟
في هذا الإطار، تتجلّى الفكرة الصوفية عن «الحبّ» بوصفها محورًا جامعًا لهذه التقلّبات. حيث يؤكّد ابن عربي أنّ المحبّة هي الخيط الذي يصل الإنسان بالوجود؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش أو يفهم أو يبدع دون اتصالٍ عميقٍ بما يحبّ. والحبّ في هذا السياق لا يقتصر على العلاقات العاطفية المحدودة؛ بل يمتدّ إلى حبّ الجمال والمعرفة، وحبّ الخير للآخرين، وحبّ الذات السامية التي تبتغي السموّ والارتقاء. ويلتقي هذا التصوّر مع رؤًى إنسانية حديثة ترى أنّ الخروج من الأزمات الوجودية والعالمية يكمن في توسيع دائرة التعاطف الإنساني؛ إذ يصبح التضامن ركنًا أساسيًّا من أركان البقاء لا يقلّ أهميةً عن التقدّم العلمي أو الاقتصادي.
فعندما نتأمّل في نصوص نيتشه عن «موت الإله»، نجد دعوةً صريحةً للإنسان كي يخلق معانيه وقيمه بعيدًا عن اليقينيات الميتافيزيقية الموروثة. وقد يبدو هذا الطرح مناقضًا لتصوّر ابن عربي -الذي يُبقي الباب مفتوحًا نحو الألوهية كمصدرٍ للمعنى- لكنّ التدقيق يكشف إن كليهما، رغم اختلاف المنطلقات، يتفق على دعوة الإنسان لتحمّل مسؤوليّة وجوده ورفض الحلول المعلّبة التي تُعطى له مسبقًا. فابن عربي يرى في الإنسان كائنًا مكرّمًا بالنفخة القدسيّة، لكنه في الوقت نفسه يتحمّل عواقب أخطائه وواجب تصويبها؛ أما نيتشه فيرى أنّ على الإنسان التحرّر من «ظلّ الإله المزيّف» ليشقّ طريقه الخاص نحو قيمٍ جديدة تعبّر عن إرادته العميقة.
هكذا يلتقي الاثنان في الإلحاح على فكرة الإرادة والتحرّر من الأطر المتصلّبة للمعنى؛ فالإنسان في كليهما ليس متلقّيًا سلبيًّا للمعاني والقيم، بل هو فاعلٌ وصانعٌ ومسؤولٌ أمام ذاته والوجود. وينبثق من هذه الرؤى سؤالٌ آخر: كيف نتعامل مع «الشكّ» أو «القشعريرة الوجوديّة» التي تعترينا حين نفكّر في كونية الأسئلة؟ هنا يطلّ هيدغر ليربط الكينونة بالسؤال بوصفه فعلًا مستمرًّا؛ فالكائن الإنسانيّ -وفقًا له- لا يعرف ذاته إلا من خلال التساؤل، وأيّ نقصٍ أو ثغرةٍ في المعنى تدفعه إلى المضيّ في رحلته التأمّلية. ويرى بعض الدارسين إن هذا المنحى الهيّدغريّ يلتقي مع الرؤية الصوفية التي تحثّ المريد على «السير والمراقبة الدائمين»؛ فتغدو الحياة رحلةً لا تنقطع من المعرفة والوجد والالتماس.
في ضوء هذا، نعيد النظر في أبيات الأشبح؛ فنكتشف أنّ «العالم الزهريّ» قد ينقلب إلى «وحش»، ثم يظهر في النهاية بطعم «الحلاوة» التي لا تُدرك إلا بعد تجرّع المرارة. ووفق التحليل الفلسفيّ والصوفيّ الوجوديّ، فهذه ليست مجرد أطوارٍ فردية؛ بل تمثّل الحركة الكبرى للذات في رحلتها لكشف المعنى: من سذاجةٍ وأمان (جهل) إلى مواجهةٍ مرعبةٍ للحقائق (علم وما يرافقه من قلق)، إلى بؤسٍ قد يعقبه حيادٌ يمنح فسحةً جديدةً للتأمّل، ومن ثمّ العودة إلى حلاوةٍ يلوّنها وعيٌ أعمق أو رضا نسبيّ. هذه الدورة الإنسانية تمثل أكثر من مجرد تطور داخلي؛ فهي تعكس حركة أوسع نحو إدراك المعنى كرحلة مستمرة تستلزم تحدي الأفكار الراسخة وإعادة صياغتها. وفي كلّ مرةٍ نتوهّم أننا بلغنا «النهاية»، يباغتنا الواقع بتحوّلٍ جديد يذكّرنا بأنّ «القابلية للتأويل» سمةٌ أساسيةٌ في الاصطدام المستمرّ بين الحلو والمرّ. هنا تظهر قدرة الإنسان على إعادة قراءة خبراته وتحويل البؤس إلى تجربةٍ تعليمية، أو تحويل المعرفة إلى جسرٍ يعيد اكتشاف الذات. ولعل هذا التحول هو ما يجعل الحركة الإنسانية ملهمة ومستمرة، بوصفها تعبيرًا حيًا عن البحث الذي لا ينتهي عن المغزى والقيمة. وبما أنّ لكل عصرٍ أدواته الثقافية والمعرفية؛ فقد تتلوّن الأسئلة في ثوبٍ دينيٍّ أو فلسفيٍّ أو علميٍّ ماديٍّ أو فنيٍّ وشعريّ.
أمام هذا التنوع، يبرز «آدم» كصورةٍ شاسعةٍ تحتضن تناقضاتٍ تبدو عصيّةً على التوحيد. ويمكن فهم كلام ابن عربي في ضوء أنّ آدم ليس مجرد مخلوقٍ تاريخيّ؛ بل رمزٌ أنطولوجيٌّ لإنسانٍ قادرٍ على عناق الأضداد في حركةٍ متواصلة. وتتجلّى في هذا المشهد قضايا فرعية، منها موقع الأخلاق: هل ينبغي أن نستمدّ نمطًا أخلاقيًّا من رؤيةٍ دينيةٍ أو فلسفيةٍ؟ أم علينا ابتكار أخلاقٍ جديدةٍ لكلّ عصرٍ على طريقة نيتشه؟ وهل في الصوفية ما يشير إلى العدالة الاجتماعية أو مسؤوليّةٍ بيئيةٍ صريحة؟ أم تُترك هذه الجوانب للأنظمة المدنية والعقل العلميّ؟
كلّها أسئلة تتفرّع من سؤالٍ شامل: «أيّ حياةٍ تستحقّ أن تُعاش؟» فمن قد يرى أنّ الحياة تستحقّ الإبداع أو التأمّل الجماليّ وحده قد يغفل عن واجباتٍ أخلاقيةٍ أو اجتماعية؛ فيما يعتبر آخرون أنّها جديرةٌ لأنّها بوابة السعادة الدنيوية؛ فيفسّرون الأمور بما ينسجم مع الملذات الآنية. ويبقى صراع التفسيرات محتدمًا.
في التراث الصوفيّ، نادرًا ما نعثر على تنظيرٍ فقهيٍّ مفصّل حول العدالة الاجتماعية أو حماية البيئة بمصطلحاتنا الحديثة؛ لكنّنا نلمح رؤيةً شموليةً لوحدة الوجود تجعل الإنسان مسؤولًا عن كلّ تجليات الكون. فحين يكون آدم جامعًا لكلّ الموجودات، لا يعود حرًّا في إهمال العالم أو العبث به؛ لأنّ أيّ اعتداءٍ على الطبيعة أو الإنسان هو في جوهره انتقاصٌ لجزءٍ من صورة آدم ذاته. ومن هنا يمكن مواءمة الرؤية الصوفية مع قضايا العصر تحت إطارٍ جامعٍ: «الوجود واحد»، والحفاظ على توازنه مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ، وإن كان هذا التأويل عصريًّا بامتياز، إلّا أنّه لا يتناقض جوهريًّا مع روحية الصوفية الأولى.
أما عن «المعنى»، فيبقى السؤال: هل يأتي من الخارج بوصفه معطًى إلهيًّا أم من داخل الإنسان؟ في التراث الدينيّ التقليديّ، الجواب إنّه من الله والإنسان إمّا يصدّق أو يكفر؛ وفي الأفق الحداثيّ يقال إنّه من صنع الإنسان، وكلّ حديثٍ عن مصدرٍ أعلى هو إسقاط. لكنّ طرحًا أعمق قد يفترض أنّ الله يهب الإمكانية، بينما يتولّى الإنسان بلورتها بقدر آفاقه الروحية؛ وعليه، يصبح دور الإنسان في تشكيل المعنى حيويًّا وديناميًّا، لا يندرج تحت إجابةٍ دوغمائيةٍ مفروضةٍ من علٍ، ولا يكتفي بإنكارٍ جافٍّ يستأصل ثمار التراث الروحيّ.
مع هذا الانفتاح، يبرز القول: «كلٌّ منا يكتب قصّته بنفسه.» إنّها إشارةٌ حداثيةٌ تتناغم مع الفكرة الروحية عن الإنسان بوصفه حاملًا لصورة آدم؛ فحكاية آدم في الميثولوجيا الدينيّة بدأت بنفخةٍ إلهيةٍ مكّنته من تلقّي «الأسماء»، لتتوالى الأحداث والأخطاء والتوبة. وهي حكايةٌ تتجدّد في كلّ فردٍ بمرور الأيام واكتشافاته؛ إنّها سيرورةٌ لا تنتهي، بل تتكرّر يوميًّا في كلّ تجربةٍ وخبرةٍ، لتؤكّد أنّ البحث عن المعنى -على تنوّع طرائقه واختلاف مراميه- يظلّ رحلةً دائمةً في قلب الوجود البشري.
لنعد إلى أبيات الأشبح وحديثه عن الحلاوة بوصفها لا تكتمل إلّا بمرارةٍ تسبقها؛ فعالمٌ حسبناه ورديًّا قد ينقلب إلى كابوس، وعلمٌ ظننّا أنه خلاص قد يبدّد سعادتنا التي تقترن بالجهل الساذج. لكنّ هذه الدورة لا تمضي عبثًا؛ بل تتيح لنا تأسيس وعيٍ أعمق بالمتناقضات، بحيث يتجلّى طعم الحلاوة بأصدق أشكاله بعد تجرّع المرارة، وتتبدّى أهمية العلم بعد أن ينحسر وهم البهجة البريئة. وفي كلّ طورٍ جديدٍ تتكرّر الحكاية؛ بيد أنّها لا تعود النسخة نفسها؛ لأنّ الخبرة تتراكم والوعي يتسع. وهنا تحديدًا تبرز قيمة الحركة الإنسانية: نسير نحو الأمام في حين نعتقد أحيانًا أننا نهوي إلى الوراء.
إنّ التحوّل الدائم بين الجهل المريح والعلم المقلق يذكّرنا بأنّ الوجود يظلّ مفتوحًا على سؤالٍ جديد في كلّ مرحلة. فالفيلسوف قد يكتفي بإطار نظريّ، بينما يترك المتصوّف الباب مواربًا للمحبّة، كي تبقى التجربة إنسانيّة وحميمة دون تحجيمٍ أو تعريفٍ صارم؛ إذ يريد إبقاء المريد في حالة سعيٍ دائم. والشاعر يميل إلى التورية والمجاز؛ فيترك المخيّلة في فضاءٍ حرّ، فيما يركّز القارئ المعاصر على حريّة الفرد وتعدّد الرؤى. وسط كلّ ذلك، يبقى «الإنسان» هو الخيط الذي يشبك بين تلك التجلّيات المتنافرة؛ آدم الكونيّ الذي يتجدّد كلّما تجرّأ أحدنا على طرح سؤالٍ جوهريّ: «ما معنى وجودي؟»
يبدو أنّ وفرة الشرح والتأويل تبرهن أننا لا نريد -بل ربّما لا نقدر- على إيقاف هذه المسيرة. فكلّما ارتفعت أصواتٌ تقول: «أما آن لهذه الأسئلة أن تنتهي؟» أتاها الجواب من جهاتٍ شتّى: لن تتوقّف ما دام الإنسان موجودًا؛ ذلك أنّ الإنسان بطبيعته كائنٌ يقظٌ، يتوق إلى الاكتمال، وإن كان يدرك في قرارة نفسه استحالة بلوغه التمام. وفي الوقت ذاته، كلّ محاولةٍ للإجابة قد تفتح فجوةً جديدةً للتساؤل؛ وهذه المفارقة هي عينُ المأساة والجمال في الوجود البشري، كما لخّصها غيرُ واحدٍ من الشعراء والفلاسفة.
هكذا لا تكون الأبيات التي استهللنا بها مجرّد مدخلٍ ولا خاتمة؛ بل تجربةً يستعيدها كلّ متأمّلٍ -سواءً في عزلته الخاصة أو في زحمة الحياة- إذ نتقلّب من جهلٍ نقيٍّ إلى علمٍ مقلق، ومن صورةٍ ورديّةٍ للعالم إلى انكشافٍ على وحشيّته، ومن بؤسٍ إلى حيادٍ إلى أملٍ، ثمّ إلى حلاوةٍ تفقد معناها ما لم يمهِّد لها مرٌّ سابق. كلّ مرحلةٍ تنبّهنا أنّنا -رغم كلّ إحباط- ما نزال قادرين على النهوض من جديد، وعلى طرق أبواب تجربةٍ قد تكون أكثر عتمةً أو أكثر ضياءً؛ وهذا الانفتاح هو ما يجعل «الحياة التي تستحقّ أن تُعاش» حياةً مفعمةً بالحركة والمغامرة والبحث والمفاجآت، والقدرة على مزج الحلو بالمرّ.
وفي نهاية المطاف—إن جاز لنا أن نصف ما نصل إليه بـ«النهاية»—لعلّ الخلاصة الأكثر عمقًا التي تشير إليها هذه النصوص هي أنّ الإنسان التائق إلى الوضوح القاطع سيخوض دائمًا مغامرة السؤال؛ وما إن يستقرّ مؤقتًا في إجابةٍ تطمئنه، حتى يلوح بُعدٌ جديدٌ يقتضي مزيدًا من الجرأة. إنه «النهر الجاري» الذي لا نعبره مرّتين؛ لأنّه يتغيّر في كلّ عبور، ونواكبه نحن أيضًا بتغيّرٍ موازٍ. ولعلّ هذا التغيّر هو ما يدفعنا إلى محاولة صبغ العالم بالمعاني، وإن كنا نضمر يقينًا أننا لن نبلغ أبدًا الكلمة الفصل.
ولأننا ندرك أنّ كلّ حديثٍ في هذا الموضوع يبقى مفتوحًا على آفاقٍ متعددة، نجد فيه مزيدًا من الثراء؛ فما زلنا نقرأ نصوصًا ضاربةً في القدم، لكنها تمسّنا بصدقٍ حين نعيشها ضمن واقعنا المعاصر. وما زلنا، في المقابل، نحتفي بالاكتشافات العلمية والتكنولوجية التي تتيح لنا النظر إلى ما وراء الأرض، أو تفكيك بعض أسرار الجسد والكون، دون أن تغلق هذه الفتوحات سؤال المعنى. وهكذا، تتأرجح الروح البشرية بين نشوة الاكتشاف وضياع اليقين، فيزدحم بالمزيد من الأسئلة، ونبدو أحيانًا كما لو كنّا نطمح إلى إجابةٍ بينما نريد—في العمق—الاستمرارَ في طرح المزيد من التساؤلات؛ تلك هي المفارقة الأكثر لذّةً والأكثر إيلامًا في آنٍ معًا.
أما استعادة دعوة محيي الدين بن عربي إلى التوحّد في «المحبّة»، فإن ذلك لأنّنا قد نراها خطوةً ذكيّةً لتجاوز العديد من التوترات؛ فمن يدرك أنه امتدادٌ للوحدة الوجودية قد يهدأ بعض قلقه، متفهّمًا أنّ عدم حصوله على «الإجابة النهائية» ليس فشلًا ولا نقصًا. ومن تتّسع رؤيته إلى آفاق الحبّ الشامل قد يرى في اختلاف البشر فرصةً للإثراء لا للنزاع؛ غير أنّ هذه الرؤية الموحِّدة لا تلغي أنّنا مفطورون على التقلّب والاشتباك مع الأسئلة الحارقة. بعبارةٍ أخرى، تخفّف المحبّة من خشونة العالم، لكنها لا تجعله بلا حيرةٍ أو تناقض؛ لأننا، بحكم تركيبتنا العقليّة والروحيّة، نحتاج هذا الصراع كي نواصل الحركة والكشف والتجديد.
تَظهر النصوص الفلسفية والعرفانيّة التي تتناول سؤال «ما المعنى؟» أو «أيّ حياة تستحقّ أن تُعاش؟» (على الأقل القليل الذي وقعتُ عليه منها) وكأنّها تُلحقنا بمفترق طرقٍ بعد أن تمنحنا خطوطًا عريضة. وربّما ينطبق عليها الوصف بأنّنا نقف حيال «سيرةٍ مسترسلة» تُشبه سيرة صاحبنا الذي تحوّل من «جهلٍ» يفتخر به، إلى «علمٍ» أقلقه، ومن «عالمٍ زهريٍّ» اتّضح أنّه وحشيّ، إلى «بؤسٍ» أجبره على الانسحاب، ليصل أخيرًا إلى «حيادٍ» يتيح له الاستمتاع بـ«حلاوةٍ» جديدة.
في كلِّ مفترقٍ، ينشد الإنسان روايةً تفسّر له ما جرى، وقد يجد ضالّته في الأديان أو الفلسفات أو الفنون؛ بيد أنّه سرعان ما يغيّر تلك الرواية حين تتبدّل قناعته أو يصبح الواقع أكثر تعقيدًا. وبهذا يتجلّى جانب الإبداع الإنسانيّ؛ فنحن لا نسعى إلى «نهاية التاريخ»، بل إلى «انطلاقاتٍ متتاليةٍ» تدفعنا نحو مزيدٍ من الفهم، وإن كان فهمًا نسبيًّا ومراوغًا. ولذا تبدو الأسئلة التي تطرحها تلك النصوص وقودًا لا غنى عنه يُذكي جذوة الوعي، وليس عائقًا يجب التخلّص منه. فإذا تعثّر الإنسان أحيانًا في متاهات الشكّ، فإنه يجد في أحيانٍ أخرى متنفّسًا للعب والخلق والدهشة.
ولمّا كانت الحيرة جزءًا أصيلًا في هويّتنا، فقد نفهم مغزى المَثل: «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب.» إذ غالبًا ما يقودنا الإفراط في التوضيح أو الدلالة الصريحة إلى مصادرة المعنى، وكأنّنا نسعى إلى تطويقه ضمن قالبٍ نهائيٍّ يحول دون استمراره. في المقابل، يحفظ لنا الصمتُ أو الإشارة من بعيد تلك الفسحة التي تُبقي باب التفاعل والخيال مفتوحًا؛ وفي هذا ملمحٌ من مفارقةٍ عبّر عنها بعض المتصوّفة والعارفين بقولهم: «كلّما اتّسع كشف الحقيقة، ازداد يقيننا بعجزنا عن وصفها وحصرها.»
هكذا نعود إلى حالة التوتّر: نريد المعنى، لكننا نتهيّب الإجابات المكتملة؛ نحبّ الطمأنينة، لكننا نشعر بأنّها قد تقتل الدهشة. إنّها اللعبة المستمرّة بين هدوءٍ قاتلٍ للإبداع، وجهلٍ يحول دون التقدّم. وفي ثنايا هذه اللعبة تنشأ النصوص والشروح والتجارب، وتتوارث الأجيال إعادة قراءة «فكرة آدم»—ذلك الاختراع التوحيدي الرائع كما يُحب فتحي المسكيني وصفه—وتتأمّل في قصائد تصوّر الحيرة والانتشاء، وتستعيد سيرة الفلاسفة الذين تحدثوا عن «موت الإله» أو بقائه، وعن موقع الإنسان بين السماء والأرض.
من هنا، يستوعب المشهد البانوراميّ الذي رسمته هذه النصوص -ابن عربي ونيتشه وهيدغر والأشبح- محاولةً مركّبةً لرصد الإنسان بوصفه كائنًا لا يهدأ، ولا يستطيع الانفصال عن هاجس السؤال. وربّما نفهم أنّ تعدّد الرؤى لا يؤدّي إلى إلغاء إحداها للأخرى، بل يوحي بتكاملٍ يثري وعينا بمرونةٍ وانفتاح. وعلى ضوء هذا، فإنّ «الحياة التي تستحقّ أن تُعاش» هي تلك التي تتخلّق على حافّة الأسئلة، وتتغذّى من التباسٍ يدفعنا إلى اكتشاف جوانب جديدة في ذواتنا، والتعايش مع برزخيّتنا بين الاحتياجات الحسيّة والإشراقات الروحية. إنّها حياة قد لا ترضى بالعاديّ والمكرور، بل تسعى إلى إعادة اكتشافه من منظورٍ جديد. وما دام الإنسان يتساءل، فهو قادرٌ على ابتكار أدواتٍ تناسب كلّ عصر: البحث العلميّ، أو الإبداع الفنيّ، أو الانفتاح الصوفيّ، أو الحراك الاجتماعيّ، أو المغامرات الذاتية. وقد تتقاطع هذه الأدوات جميعها في تجربةٍ فريدة، فيجد الباحث العلميّ نفسه مُنجذبًا إلى عالم الروح، وقد يستعين المتأمّل الصوفيّ بأحدث التقنيات للتعبير عمّا لم يكن ممكنًا التعبير عنه في السابق. هكذا يتواصل نهر الأسئلة في جريانه، يلتقط ما يصادفه ويُشكّل تضاريسه الخاصة، ويخلق ضفافًا جديدةً يمكن أن تزهر فيها بذورٌ غير متوقّعة. وكلّما وقفنا على إحدى تلك الضفاف، أدركنا أنّها ليست نهاية الطريق. وفي المسيرة المسترسلة هذه، تتآخى الفلسفة مع الشعر، وتتداخل الصوفيّة مع الوجوديّة، ويحظى النص الحديث بمكانه جنبًا إلى جنب مع نصٍّ قديمٍ تعرّض للتأويل مرارًا. ولعلّ ذلك خير دليلٍ على بقائنا في حالة تحوّلٍ لا تنقطع، وعلى أنّ «الإنسان» أوسع من مجرّد كائنٍ محصورٍ في الزمان والمكان؛ فهو مشروعٌ مفتوحٌ على إمكاناتٍ متنوّعة.
لا فكاك لنا من براثن الأسئلة الكبرى، فهي جزءٌ لا ينفصل عن طبيعتنا. وقد يذكّرنا الأشبح في أبياته، وابن عربي في نصوصه، ونيتشه في شذراته ولكماته، وهيدغر في تعقيداته، بأنّ البشر يصوغون من المجهول دعوةً إلى الفهم، ومن عدم اليقين حافزًا للإبداع. ولعلّ هذه «الحلاوة» القصوى هي ما نلتقطه في نهاية النفق -إن كان له نهاية-؛ حلاوة أن نصنع معنىً ونحن واعون بنسبيّته، وأن نستفيد من مرارة التجربة في الإضاءة على إشراقةٍ جديدةٍ لم نرَها من قبل. هكذا تتحوّل الحياة، بكلّ ما تحمل من صعوباتٍ ووعود، إلى رحلةٍ تستحقّ أن تُعاش.
والآن، لنعد مرة أخيرة إلى أبيات الأشبح، ولننظر إذا ما كنا سنشعر بصدق الصدى الذي يربطها بكلّ ما سبق: تحوّل المعرفة إلى قلق، وتبدّل العالم الورديّ إلى كابوس، ثم نهوض الإنسان مجدّدًا، ولو كان مرهقًا، ليستعيد قدرًا من التوازن. يذوق الفرد مرارة التجربة، ويبوح بما تعلّمه، ثم يعيش لحظة صفاءٍ قبل أن يتجدّد فيه القلق، ويطرح الأسئلة مرّة أخرى؛ لعلنا نبلغ خاتمةً تقوّض -في جوهرها- فكرة الخاتمة نفسها: إنّ «الحياة التي تستحقّ أن تُعاش» هي أي حياةٍ عيشت، أو ستعاش! [2]
[1] محمد الأشبح، قصيدة غير منشورة. أُرسلت عبر محادثة خاصة على تطبيق واتساب بتاريخ (8 يناير 2018).
[2] الإحالات الفكرية:
تهدف الإحالة إلى الأعلام الوارد ذكرهم في متن المقال؛ الإحالات بعامة، إلى وضع القارئ في أفق فكري يتناغم مع الأفكار المطروحة في المقالة. لا يُقصد بها توثيق دقيق أو استشهاد مباشر بأعمال الأعلام المذكورين، بل هي بمثابة دليل للمعالم الفكرية التي أثرت بشكل أو بآخر في هذا النص، سواء عبر قراءتي المباشرة لهذه الأعمال أو من خلال تأثيرها غير المباشر. تُذكر العناوين هنا بشكل مجمل لمن يرغب في استكشاف هذه الأفكار بشكل أعمق.
الإحالات: