يزيد بدر
” أنا العين السينمائية أنا العين الميكانيكية أنا الآلة التي تعرض عليكم العالم كما أراه وحدي ولا يمكن لأحد غيري أن يراه إنني أحرر نفسي منذ اليوم وإلى الأبد من السكون البشري أنا في حركة دائمة” دزيغا فيرتوف
إن سؤالًا عن “الواقع” ليس حكرًا على حقل دون غيره، وهذا الأمر يبدو واضحًا إلا أن هذا العصر الذي يفصل بين حقول المعرفة ويُجيد لغة الأضداد جعل سؤال: ما الواقع؟ سؤالا عليمًا صرفًا أو فلسفي بالمعنى الترفي للتفلسف، وهنا أريد أن أسجل نقدي أولًا للغة الأضداد وفصل المعارف عن بعضها حتى ندشن “حقلًا فلسفيًا” رحباً وقادراً على التعاطي مع “كل” ظواهر الحياة. من السهل تأريخ هدم “الواقع” من خلال السياقين العلمي والفني، لكن كتابة تاريخ كهذا لا يفيد شيئًا عندما نعي أن “سلطوية الواقع” لها جذور عميقة أبعد من كونها تهمة ضد البرجوازية كما عند الماركسية، وأعمق من كونها نسيان قَدري “لتاريخ الغرب الروحي” بصياغة هايدغر، على أن يفهم هنا أن مقولة “أعمق” ليست دقيقة عند تمحيصها فهي تفترض سطحًا يخوض فيه جماعةٌ من الناس وعمقًا سريًا لا يُدركه إلا العارفين أو العباقرة، لذلك استخدم لفظ “عمق” بدلالة محددة وهي: أنه من الصعب تعيين علة أحادية كسبب لنشوء مقولة الواقع. وهذه أمور لابد أن تكون واضحة منذ البدء. ما يترتب عن نقد صنمية الواقع ليس ظهور واقعٌ جديد بدل واقع مضى وراح طي النسيان، إن النتيجة التي أرمي إليها من نقد الواقع هي أن يكون سؤال الواقع مفتوحًا دون رجعة وهو كذلك من حيث تناهي الإنسان. هذه النتيجة لها تبعات عدة كتحرير الإبداع الفني من كل سلطة أبوية، وعدم الجزم فيما يخص التخلق وقواعد السلوك، لذة العيش في “واقعٍ مفتوح” بدل أن نغلقه إلى الأبد، ويلاحظ في هذه النقاط أنها متماشية مع التقسيم التقليدي لمباحث الفلسفة أي الفن والخير والحق على أن يؤخذ هذا التقسيم لتسهيل الفهم لا لخلق حدود صارمة وهي ما بدأنا نقده آنفًا. إذن كيف يتصور المخرج الروسي فيرتوف مسألة الواقع من خلال فيلمه الطليعي هذا؟ وعلي أن أذكر قبل الاجابة على أنني سوف استخدم ثنائية شكل ومضمون لتسهيل رؤية هذا المخرج دون الاعتقاد بالفصل بينهم.
في صناعة السينما يعتبر الشكل هو التقنيات المستخدمة لتقديم المضمون(الحبكة مثلًا) وهذه التقنيات هنا تعتمد على عدة عناصر كالعدسة والمونتاج الخ فمن خلال هذه التقنيات يكون لدينا شكل محدد ومعين لتقديم المضامين، وكأي حقل فني أخر تم اعتماد طرق بعينها على أساس أنها الحقيقة المطلقة لصناعة السينما وهو ما نعيش أثاره اليوم من خلال منتجات سينمائية أقل ما يقال عنها أنها تُعاني من تكرار مضجر ليس لهُ نتائج إلا “تخريب ملكة الحكم” عند المتفرج، فيرتوف هنا يقدم حكاية رجل يسير في الشوارع حاملًا عدسة التصوير معه ليلتقط مظاهر المدينة وما فيها، وفي عالم السينما هناك مقولة مهمة وهي “الإيهام” والذي تعني “وَهم” وتعبر هنا عن الحد الفاصل بين ما بعد عَمل العدسة السينمائية وقبلها، لذلك يُرمز لهذا البدء والانتهاء بالعد غالبًا ” ٣ ٢ ١ أكشن” بعد هذه الصرخة يبدأ المقام السينمائية والذي يعتمد على وهم التمثيل والذي غالبًا يعتمد على “محاكاة الواقع” على كلًا هناك عدة طُرق لكسر هذا الوهم كالالتفات للجدار الرابع أي أن يحاكي الممثل الجمهور وغير ذلك . فيرتوف يستخدم هنا لكسر هذا الوهم جدلية الواقع المسُجل من خلال رجل الكاميرا والوهم من خلال إظهار المصور ذاته وهو يقوم بعملية التصوير والذي يعتبر اليوم “فريق التصوير” إن هذا الاظهار برؤية هذا المخرج يعد كسرًا للوهم ومن منطلقاته يعتبر مقولات التمثيل والإيهام والفردانية ثقافة رسختها طبقة محددة أي البرجوازية لذلك قام بمحاولة هدم هذه المقولات من خلال فيلمه هذا، إلا فيرتوف لا يتوقف عند هذا الحد بل نجده يُظهر في نهاية الفيلم المصور ذاته وهو يُصور أيضًا فالوهم مبني على وهم أخر وهكذا في جدلية لا أقرأها ديالكتيكية بل جدلية بلا نهاية سعيدة، ولكن هذا الأمر ومن خلال تصوير عين تراقب داخل الفيلم وهي التي ترمز لتصوير المصور ذاته يجعلنا فيرتوف في حيرة فهل يريد اثبات نزعة بركلية؟ أم نزعة راديكالية من البورديارية؟ يكون أقرب لبركلي لو كان يقصد بالعين العليمة عين الإله فكل الموجودات تحافظ على وجودها لأن “الإله ينظر إليها ” لكن في نظري هو أبعد ما يكون عن البركلية خاصةً أنه من نتاج السينما السوفيتية والتي تعتمد الإيديولوجيا الماركسية أي الجدلية العلمية، فيظهر لنا جليًا أن هذه العين هي عين السلطة وخاصةً أن هذا الفيلم ظهر في عهد ستالين، ولكن النقطة التي تفيد رؤيتي عن “دلالة الواقع” وهي أن جدلية وهم/حقيقة لا تقف عند حد معين كالقول بأن عين السلطة هي من تخلق الوهم، بل تجاوزًا لمنطق الأضداد ومن خلال هذا الفيلم أُرسخ نتيجة مهمة وهي : أنه لا فرق بين الوهم والحقيقة. الفرق في جذوره عائدٌ لمقولات ميتافيزيقية تُنصب مقولةً ضد أخرى ولكن عند نقد البعد الجوهري للوجود تنعدم هذه الثنائية، ولكن هذه الثنائيات لها أسباب عصبية، وهو ما يقودني للجزء الأخر من هذا الفيلم، على أن يكون واضحًا منذ البدء أنني أقرأ هذا العمل من خلال رؤية فلسفية وهي “الطبيعانية الذرية” وهنا سوف أذكر ما أعده نوعًا من “الابستمولوجيا العصبية” وسوف نأخذ هذا الفيلم مثالًا لبعض جوانب هذه النظرية المعرفية.
مضمون هذا العمل ينطلق من الإيديولوجيا الماركسية كما ذكرنا أعلاه، فمن خلال لقطات السريعة نرى العمال وهم يعملون في المصانع وفي المقابل يُظهر فيرتوف إمرأة تزين شعرها في الصالون، وهذا التقابل في عملية المونتاج يحمل رسالة تهدف “للوعي الطبقي” أي الفارق بين العالمين، لكن من اللقطات الرائعة في هذا العمل والذي جعلتني أصرخ “واو” ذلك المشهد داخل غرفة المونتاج، هنا يبرز لنا المخرج “بنية الوهم السينمائي” وهي ما أسميه “الوهم العصبي” فنحن نرى شريط فيلمي فيه مجموعة من الصور الثابتة وعند تسريعها تدركها العين كمتحركة وهذا ما نسميه فيديو، بمعنى أخر الأعمال السينمائية هي صور ثابتة فوتوغراف إلا أن تسريعها يُحدث هذا الأثر بالحركة “لذلك السينما تقوم على الحركة والضوء” الطريف هنا أن هذا القيد عائدٌ لتركيبة الجسد البيولوجية والعصبية فمهما فعلت عند تسارع الصورة فسوف تظهر لك متحركة، هنا يحطم فيرتوف السينما من عمقها وجذرها، وهذا الهدم ينسحب على الواقع من جهة أننا لا ندرك الواقع إلا من خلال قيدنا العصبي-البيولوجي على أنه لا نريد اثبات وهم ادراك الواقع بل أريد القول أن الدماغ لا يفرق بين الواقع والوهم ومن ثم كل معايير الحقيقة تسقط إلا معيار التكيف وهو موضوع كتبت عنه في مناسبات أخرى. هكذا يبرز العمل مجموعة من الرؤى الطليعية والتي تقود في نظري إلى رفع قيمة العمل الإبداعي بل الركون لقوالب جاهزة.
تبقى هناك معضلات غير محلولة، وأسئلةً مفتوحة، وهي في نظري من صميم وجودنا البشري كوننا كائنات متناهية، إن طلب جوابًا كاملًا ومغلقًا لكل شيء هو نوعٌ من التصلب المعرفي، كما أن مقولة “الواقع المطلق” فيها كثيرٌ من العنف ضد الآخر الأمر يشبه أن يحمل أحدنا سلاح ما ويرفعه أمام الأخرين “كن واقعيًا” وفي نظري أن من مهمات الفلسفة والفن والعلم اطلاق طاقات الإنسان نحو التجديد والتجريب، ففي هذه الرحلات الأوديسية يكتشف البشر كثيرًا من الأشياء، ولا لذة تعادل الحرية والسعي الحثيث نحو سؤال : من نحن؟ وكيف نرفع المعاناة عن هذه الأرض كافة. يبقى على عاتق الفنانين اليوم مهمة التضلع في حقول المعرفة ففي عصرٍ صار كل شيء تحت المجهر والعالم قرية صغيرة بات لزامًا ظهور “الفنان الفيلسوف” وهذه جملة فيها من طوباوية أفلاطون ولكن أتركها هنا لحقنا كبشر في أن نَحلُم. والمهمة الأخرى تقع على عاتق المتفرج فلا أطالبه بالبحث والاطلاع الخ بل فقط أن يكون منفتحًا على الأخر.