2025-11-08

١٠ يوليو ٢٠١٧
عاش على فدان واحد أعلى بركة والدن. كان لديه حديقة صغيرة وعاش على الأرض مستمتعا بالتفاح البري الذي لازال ينمو حول كونكورد في ماساتشوستس في القرن التاسع عشر. بقي على مقربة من والدن فهنا يستطيع أن يكون أكثر حرية.
لم يكن اسمه هنري ديفيد ثورو.
كان بريستر فريمان رجلا أسود البشرة وأحد السكان الأصليين لغابات والدن. وكما أخبرتنا لورا والز في سيرة ثورو الجديدة التي كتبتها فإن فريمان قاتل في الثورة، وفيما بعد “أعلن استقلاله عبر اسم عائلته” لكنه “لم يستطع إثبات حريته خارج كونكورد، فاشترى فدانا على التلة شمال بركة والدن، وهي تلة بريستر”. ووالدن اليوم محمية كحديقة عامة، ومسجلةٌ معلما تاريخيا ووطنيا، وطالما أن الزوار يمكنهم العثور على موقف للسيارات فإنهم يأتون ويذهبون بسعادة – كما كان شأن ثورو – لكن العديد من جيرانه لم يمكنهم ذلك.
في عيد ميلاد ثورو المئتين في يوليو من هذا العام قد يرغب منا أن نتذكر الرجال والنساء ممن لم يعترف التاريخ بكثير منهم، والذين قُيدوا بهذا الركن الفردوسي من الأرض. لقد كان ملاذا بالفعل، لكن كانت الحرية بالنسبة لكثير من رفاق ثورو ضيقة الحدود. كان عالمهم وفقا للمؤرخة إليز لامير هي “والدن السوداء” مكانٌ غير هادئ لليأس.
بالنسبة لقراء التاريخ التقليدي، من السهل اتباع الانطباع عن ثورو وكونه الشخص الوحيد في والدن وأن البِركة كانت أرضا بِكرًا. لكنها لم تكن كذلك. كانت والدن وراء حدود الجماعة المتحضرة، وهذا يعني أنها مكان للمنبوذين. أدرك ثورو ذلك وعاش بإرادته بين أولئك الذين منعوا من العيش داخل العديد من الضواحي الثرية لبوسطن.
كان التقشف الذي فرضه على نفسه والذي كثيرا ما نربطه مع أساليب ثورو في احتضان الأشجار، وكان هذا في الواقع من وسائل فهم أولئك الأفراد الذين تعيّن عليهم العيش في حياة ضئيلة على حافة المجتمع. لا يجعل ذلك من ثورو قديسا، لكن يشير إلى اتصال حميم بين انسحاب ثورو إلى الغابة وقدرته على فهم أولئك المعذبين في ظل ظروف الاضطهاد.
إذن من كانوا جيران ثورو بالضبط؟
وفق ما اكتشفته لامير ووالز أثناء بحثهما عن ثورو، كان أولئك الأفراد يجسدون التاريخ المشحون بالعنصرية في الأمريكيتين. كانت أخت بريستر فريمان وهي زيلبا وايت هي الأخرى من العبيد المحررين. وعاشت بعد الدفاع عن إعلان الاستقلال على حافة حقل الفاصوليا الشهير لثورو، وهو المكان الذي كدَّ فيه لعامين آملاً أن يحقق “الاعتماد على الذات” الذي قال به رالف إميرسن وهو الفعل النادر والصعب في مؤازرة النفس.
توضّح لامير أن زيلبا وايت قامت بذلك بهدوء. نسجت الكتان وصنعت المكانس لكسب لقمة العيش. أحرق مشعلو النيران منزلها عام 1813 واستطاعت الهروب من النار، لكن مات كلبها وقطتها ودواجنها. أعادت بناء منزلها لكن حياتها ومن يماثلها من النساء لم تشترك بالكثير مع مثال روسو الرومنسي عن (حالة الطبيعة).
ثم جاء مواطنو غابات والدن من ذوي الشعر الأصهب والوجوه الشاحبة والذين لم ينضموا إلى البيض تماما، وهؤلاء هم الإيرلنديون. وفد المهاجرون الإيرلنديون إلى الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر وكانوا في معظم شؤونهم معزولين في أطراف المجتمع. احتفظ ثورو بعلاقة طويلة وعميقة مع العديد من المهاجرين الإيرلنديين ممن أتوا للعيش والعمل في خط سكك الحديد بالقرب من والدن.
اكتشفت والز أن ثورو التقى بحفار خنادق إيرلندي يُدعى هيو كويل وعرض عليه أن يدله على نبع صاف يجري بالقرب من تلة بريستر. لكن لم يقو الشيخ المسن على القيام بهذه الرحلة القصيرة نظرا لمرضه الشديد. كان مثل العديد من الإيرلنديين المقربين من العبيد، قد نهل حتى الموت من الفقر المدقع.
في الوقت الذي قدم فيه ثورو إلى والدن في الرابع من يوليو عام 1845 كانت طبقة المنبوذين قد زالت في معظمها، لكن آثار العبودية السابقة ومحتلي الأراضي والمهاجرين والعاملين بالأجرة اليومية يتواجدون في كل صوب. كان جون بريد وهو الآخر عامل فقير يعيش على حافة الحياة في كونكورد، قد لبث في منزل صغير وعلى مرمى حجر من البركة. بعبارة والز: “أحرق فتيان البلدة منزله عام 1841”. أسرع ثورو وهو بعمر الرابعة والعشرين ليشاهد النار وتحدث مع ابن بريد المصدوم في اليوم التالي. كان بريد ميتا في نفس الوقت: لقد مات هو الآخر ثملاً في طريق والدن عام 1842.
كان ثورو يدرك من هم “المجهولون” ذائعي الصيت والذين احتلوا الأرض التي سيسكنها لاحقا، وكانوا في أوقات أخرى يدعون ملكيتها. اشترى رالف والدو إيمرسن الأرض الرخيصة والمهجورة في معظم الأحيان حول والدن، هناك حيث أقام ثورو منزله الشهير على يدي الخزاف توماس وايمان. دعا إيمرسن بعد فترة قصيرة ثورو ليبني معتزل للكتابة في تلك المساحة. لكنه قبل أن يقوم بذلك وفي أبريل سنة 1845 اشترى ثورو كوخا لجيمس كولينز وهو كما ذكرت والز “رجل أيرلندي من عمال سكك الحديد بدأت تتحسن ظروفه”. دفع ثورو أربع دولارات وربع للمنزل (تساوي تقريبا مئة وخمسين دولارا اليوم) وعند الفجر خرجت عائلة كولينز وقد جمعوا كل أغراضهم ورتبوها بعناية في حزمة صغيرة. قام ثورو بتفكيك أكواخهم وتلميع الألواح واستخدمها في بناء مقصورته في الغابة.
“البساطة، البساطة، البساطة” اعتنق ثورو نمط المعيشة الإسبرطي خيارا له، لكن المفارقة تكمن في هدمه للكوخ سعيا منه خلف أسلوب حياة متواضع ومؤلم ليحتفي به. يسهل علينا إصدار حكم ضد ثورو اليوم؛ فهذا الرجل الأبيض بامتيازاته يسلك حياة تقشفية (ويختار ” أسلوبا بديلا لنمط حياته” بينما يُجبر الآخرون عليه) وهذا ما يجعله هدفا سهلا. لكن ثورو كان مدركا بنفسه لذلك. تعتقد والز على سبيل المثال أن ثورو كان يساعد على الأرجح عائلة كولينز في التملص من حجز منزلهم.
أدرك ثورو تمتعه بكافة المزايا، وأدرك أيضا أن المحرومين بالإجمال لا يلتفت إليهم ذوو الامتيازات. كانت العدالة الاجتماعية في جزء كبير منها مسألة مواجهة لحالة العمى هذه عن رؤية معاناة الآخرين، معاناة تخفى وهي على مرأى أعين الجميع.
بالنسبة لثورو فإن ما يمنع الأغنياء من فهم مأزق الفقراء هو في جزء منه يخص حقيقة ثرائهم وأملاكهم: وهذا ليس بالأمر المجازي والمفاهيمي وإنما حرفيا. من الصعب أن تفهم حيوات الآخرين من الداخل إذا كان كل همك الذهاب للتسوق أو الاهتمام بأعمال بيتك أو الإسراع نحو الحفلات. أن “تعيش بإرادتك” وفق تعبير ثورو، هو أن تنتزع النفس من انحرافات سباق الجرذان هذا، وفهم الاختلاف بين الأمور التي تبدو وكأنها عاجلة كالإنفاق والاستحواذ، والأمور المهمة حقا مثل العناية والتفكير.
يرشدنا ثورو: ” لا تتعب نفسك كثيرا من أجل الحصول على أشياء جديدة” .. “بع ملابسك واحتفظ بأفكارك”. عليك أن تتحرر من مشتتات الحياة الحديثة – من العرض الذي لا ينتهي للعالَم الاجتماعي المألوف من الأشياء والأشياء والمزيد من الأشياء – فهذا ما يسمح للمرء بالتركيز والتفكير. مالذي سنفكر فيه حين لا يحتل عقولنا متاع الدنيا؟ إن لم نهتم لأمر أنفسنا فبمن سنهتم وماذا سيهمنا إذن؟
كثيرا ما يتم تصوير ثورو بأنه ناسك وشخص وحيد يرفض كل الصيغ الاجتماعية. كان في الواقع سعيدا بما يكفي ليترك الرسميات والرفاهية للحياة التقليدية، ولكن فقط ليحاول المشاركة في نظام طبيعي واجتماعي أوسع.
كان رجلا يتواصل مع الأشجار ويتحدث مع حقول الفاصوليا ويتعاون مع المطر وشعاع الشمس ليغذي محاصيله، ولديه أصدقائه في وودلاند. وكان في العديد من رفاقه شيء من الغرابة أيضاً: مثل ابن جون بريد الذي كان يعمل باليومية ويرثي دمار منزله في الصبا، وبيريز بلود الفلكي غريب الأطوار الذي زاره ثورو باستمرار في أطراف البلدة، وصوفيا فورد وهي عانس لامعة وقعت في غرام رجل واحد وهو ثورو والذي بدوره نافسها بالغرابة، وثمة عبد آبق مجهول الاسم رافقه ثورو إلى محطة سكك الحديد كي يعبر بأمان إلى كندا. وآخرون لا يمكن حصرهم.
ثمة جانب من احتضان نزعة ثورو عن البريّة هو أن ننفتح تجاه الأفراد والجماعات ممن يتواجدون وراء حدود المدينة. هؤلاء هم اللامنتمون، والمجهولون، أو حتى المنبوذون، الذين رافقهم ثورو واستطاع فهمهم وأمضى ردحا من حياته في الاعتناء بهم. يناشدنا ثورو أن نفتح أعيننا إزاء الجميع، وإذا بدا منعزلا فلعل مرد ذلك إلى فشلنا في فهم أهمية رفاقه، ولربما يعود السبب لكوننا غير منعزلين بما يكفي، أو لكوننا اجتماعيين للغاية وفق حميمية ثورو الاستثنائية.
في عام 1945 وبعد قرنٍ من عودة ثوريو إلى موطنه على ضفاف بركة والدن، شرع رالف إليسن في كتابة رواية (الرجل الخفي): ” أنا رجل خفي” هكذا يسرد راوي إليسن وهو أسود البشرة: “أنا رجل ذو جوهر، من لحم وعظم، وأنسجة وسوائل، ولعلي مثلما قال بعضهم أنني ذو عقل. أنا غير مرئي، افهم ذلك، ببساطة لأن الناس يرفضون النظر إلي”.
إن هذا الرفض رغم كل شيء استراتيجي بغض النظر إذا كان عن عمد أم لا: إنها طريقة سطحية في محو الظلم الذي يدعم التقدم والثراء بصمت. اختفى الأمريكيون الأصليون في وادي ميريماك بغية فتح الطريق أمام المستوطنين ثم العمال والعبيد الذين ناصروا الأمة وبلدة كونكورد الثرية وقتذاك، فلا يبقى سوى خرافة الفرد القوي المتطلع للأمام والمنسجم تماما مع بلد لا يفضل تتبع تاريخه المشكوك به، وهذا مالم يكن عليه ثورو على الإطلاق.
كتب إليسن: ” هنالك أشياء قليلة في هذا العالم تماثل بخطورتها السائرون وهم نيام”. كانت عيونهم مغمضة وغافلون عن العالم، تقدموا على مسؤوليتهم، لكن الأكثر مأساوية هي مسؤوليتهم تجاه الآخرين المجهولين. إذا استيقظت قبل شروق الشمس وسافرت إلى بركة والدن، سيسهل أن تفهم مزايا الاحتفاظ بعينيك شاخصتين. يجب علينا وفق ثورو أن “نستيقظ مجددا ونحافظ على يقظتنا، لا بحسب الوسائل الميكانيكية، ولكن عبر ترقب دائم للفجر الذي لا يتركنا حتى في نومنا العميق”.
وأيما يكن الأمر فإن تبني مثال ثورو ليس مسألة تتعلق ببساطة بتقدير العالم الطبيعي، أو تدوين ملاحظة دقيقة عن كل نقار خشب وشجرة البيتولا. إنه يتضمن أيضا النظر إلى الشجر وإلى الظلمة القريبة بغية تمييز أعلام البشر المخبوئين من الذين يستقرون هناك بصمت، ثم يختفون ببطء.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في جامعة ماساتشوستس. وكلانسي مارتن أستاذ الفلسفة في جامعة ميزوري بمدينة كنساس.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
At Walden, Thoreau Wasn’t Really Alone With Nature
John Kaag and Clancy Martin
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”
