2025-11-12

٢٢ يناير ٢٠١٩
ما الذي يمكن أن تكشفه لنا قراءة حوار يوناني قديم عن هَوَس ماري كوندو؟
في هذه الأيام، يبدو أنه لا يوجد أحد محصن ضد هَوَس ماري كوندو.
فكوندو، الخبيرة في فن التنظيم التي جذبت الاهتمام العالمي لأول مرة من خلال كتابها الأكثر مبيعاً لعام 2014، “سحر الترتيب الذي يغير الحياة” وقد عززت مؤخراً مكانتها كأيقونة في أسلوب في الحياة بفضل برنامجها الجديد الشهير على منصة نتفلكس “الترتيب مع ماري كوندو”.
لكن على الرغم من أن منهج “كون-ماري”—الذي لاقى صدى لدى ملايين القراء والمشاهدين الساعين إلى السيطرة على حياتهم من خلال جرد ممتلكاتهم—يعيش لحظته الثقافية الراهنة، فإنه ليس جديداً تماماً. وربما يكون قرّاء الفلسفة اليونانية القديمة قد وجدوا بالفعل جوانب منه في أعمال زينوفون، الجندي الأثيني الذي صار فيلسوفاً، وكان من تلامذة سقراط.
قد يكون أفلاطون أشهر مؤلفي المحاورات السقراطية، غير أن زينوفون هو الآخر ألّف العديد من الأعمال التي تصوّر هذا المعلّم وهو يفكر بصوت عالٍ. وأحد أعماله الخالدة هو “أيكونوميكوس”، أي الذي يقوم بالإدارة الجيدة للعقارات وشؤون المنزل. اسمه يرمز للاقتصاد كموضوع له. وهي محاورة تتألف إلى حد كبير من نصيحة سقراط التي نقلها عن مزارع نبيل يدعى إيسكوماكوس، وتتضمن هذه النصيحة نصائح فرعية حول تثقيف الزوجة عن تنظيم المنزل تنظيماً منهجياً. بمعنى آخر، يقنع إيسكوماكوس سقراط بسحر الترتيب الذي يغيّر الحياة.
على الرغم من الفجوات الثقافية والزمنية الكبيرة التي تفصل بين منهج كون-ماري ومنهج الترتيب الزينوفوني (فلنسمِّ الأخير “فون-ماري”)، فإن كليهما يشتركان في أوجه شبهٍ لافتة. هذا لا يعدو كونه مجرد صدفة، ولكن التعامل مع كوندو مع وضع زينوفون في الاعتبار، يمكن أن يساعدنا في رؤية بعض المبادئ الأخلاقية والمشكلات الكامنة في منهج كون-ماري.
في بداية كتابه « أيكونوميكوس»، طرح سقراط أطروحة مفادها أن الثروة الحقيقية لا توجد إلا في هيئة ممتلكات تعود بالنفع على مالكها. وعلى نحو مماثل، تنصح كوندو عملاءها أن يحتفظوا فقط بالأشياء التي “تثير فيهم الفرح”. إذا كنت تمتلك مزماراً ولكنك لا تعرف كيفية العزف عليه، فسيرى كل من إيسكوماكوس وكوندو أنه غير ضروري لحياتك، وسينصحان بالتخلص منه.
وسوف يتفقان أيضاً على أن المكان والأشياء لها نوع من الحياة الخاصة بها. تحب كوندو أن تبدأ جلساتها بالترحيب بالمنزل الذي توشك على ترتيبه، ويقوم إيسكوماكوس بتوجيه الكوندو الداخلي الخاص به، عندما يخبر زوجته أنه عندما يكون هناك شيء ليس في مكانه الصحيح، فإن المساحة الفارغة سوف تصرخ. والعناصر التي تريد الإصلاح ستخبرك بذلك بمجرد نظرة. ويقارن سلسلة من الأشياء جيدة التنظيم بجوقة راقصة. حتى أطباق التقديم لها “إيقاع” أنيق عند ترتيبها بشكل صحيح. وتعلمنا كوندو أن الملابس الداخلية تكره أن تتجعد وأن النقر اللطيف يوقظ الكتب التي لم تقرأها منذ فترة طويلة من سباتها. وكما كتبت في كتابها، فإن “الممتلكات التي لها مكان تنتمي إليه وتُعاد إليه كل يوم للراحة، تكون أكثر حيوية”.
يبدو بعض سرد إيسكوماكوس وكأنه نص حلقة من برنامج “الترتيب مع ماري كوندو”، لكن بدون دراما التخلّص من الأشياء – على الرغم من أن كوندو نفسها تذكّر عملاءها بأن “التخلّص” ليس غاية في حد ذاته. يبدأ إيسكوماكوس وزوجته تنظيم منزلهما مب جمع كل ممتلكاتهما. والتزاماً بالقاعدة الأساسية في منهج كون-ماري، فإنهما لا يرتّبان الأشياء بحسب الغُرف بل “بحسب النوع”، أي بحسب الفئات: الملابس والكتب والأوراق و”الكيومونو” (أشياء متفرقة) وأشياء عاطفية حسب كوندو. وأما عند إيسكوماكوس فالفئات هي الأواني والملابس والدروع ووأدوات الطعام، وما إلى ذلك. ونصيحة أخرى من كوندو هي تخزين كل شيء بحيث يكون مرئياً، من “نظرة واحدة” ويمكن الوصول إليه بسهولة. ويوصي إيسكوماكوس زوجته بالأمر نفسه، موضحاً أن الفوضى من شأن المزارعين الحمقى الذين يقومون بتخزين جميع محاصيلهم في صندوق واحد، فلا يمكنهم العثور على أي شيء عندما يحتاجون إليه بالفعل.
ماذا يمكن أن يخبرنا به زينوفون عن هَوَس ماري كوندو؟ أولاً يصرّح كتاب “أيكونوميكوس” بالفلسفة الكامنة وراء كون-ماري: إن تنظيم شؤون المنزل مسألة أخلاقية. الأشخاص الذين يعيشون في منازل فوضوية يعيشون حياة فوضوية، في حين أن الأشخاص الذين يعيشون في منازل منظمة، يعيشون حياة منظمة. في برنامج “الترتيب مع ماري كوندو” لا يبدو العملاء متعبين من الفوضى المتراكمة فحسب، بل خجلين منها أيضاً. وتُلوّح ماري كوندو لأتباعها بأملٍ مفادة أنهم يستطيعون التخلص من مثالبهم تمامًا كما يتخلّصون من كنزاتهم ذات الوبر. وتكتب: “أليس من الرائع أن يكون ترتيب منزلك قادراً أيضاً على إبراز جمالك والمساهمة في جسدٍ أكثر صحة ورشاقة؟”
يمكن اعتبار إيسكوماكوس النموذج المثالي لمنهج كون-ماري، فعندما يُعجب سقراط بصحته وثروته وقوته وبقدرته على البقاء على قيد الحياة في الحرب، ينسب إيسكوماكوس الفضل إلى جدوله اليومي الصارم – فقدرته على تنظيم الوقت تعكس قدرته على فرض النظام على المكان، وأثناء استعراضه لبراعته في إدارة المنزل، يكشف عن أسس شخصيته المنظمة. لقد ركز النقّاد على تجسيده للقوالب نمطية جندرية عتيقة الدائمة بين وتقسيمات في العمل: فالرجال قد يبدون متسلّطين، والنساء مُنقادات؛ وغالباً ما يكون المرآب ملكاً للزوج، والمطبخ من مسؤوليات الزوجة.
في نهاية عملية الترتيب، يُذكِّر إيسكوماكوس زوجته بأن حفظ النظام من الآن فصاعداً سيكون من مسؤوليتها. ويؤكد لسقراط أنّ زوجته لم تُبدِ مقاومة بل تفاعلت “بفرح، كمن وجد طريقاً للخروج من مأزق صعب”. (وللتذكير كتاب “بثّ البهجة” (Spark Joy) هو عنوان كتاب كوندو الثاني). أُعجب سقراط بذلك وهتف: “يا للعجب! يا لها من فطنة ذكورية وصفتها في زوجتك!” ومع ذلك، فإن “الذكاء الذكوري” لزوجته هو في الحقيقة الدليل القاطع على خضوعها الأنثوي.
في منزل إيسكوماكوس، ليس الشيء وحده فقط هو الذي له مكان مناسب ويغدو أكثر حيوية إذا حفظ فيه، بل الزوجة أيضاً. كلاهما، إيسكوماكوس وكوندو، يعتقدان أنّ السيطرة على حياتك تمر عبر السيطرة على منزلك. غير أن السيطرة المتاحة للنساء في عالم إيسكوماكوس محدودة، ولم يتغير الكثير في هذا الصدد.
وتدفعنا المقارنة أيضاً إلى النظر في مفهوم السيطرة نفسه. ماذا تكشف عن رغبات المهووسين بالنظام والترتيب؟ يقدم منهج كون-ماري صفقة مغرية: إذا قمت بتنظيم ممتلكاتك، فإن بقية حياتك ستكون في مكانها بطريقة سحرية. وتسعى شخصيات زينوفون إلى الحصول على مكافآت أكثر جرأة في كتاب “أيكونوميكوس”، الذي يُعد في الغالب مخططاً تمثيلياً للنجاح العسكري وحسن إدارة الدولة. فكما تحتاج المدينة إلى حرّاس، يحتاج المنزل إلى مشرف (أي زوجة). ويجعل النظام بين الجيوش وعلى متن السفن الحربية المنظر «مرهباً للأعداء وبهياً للأصدقاء». وبينما تركز كوندو على رغبات الفرد ويركّز زينوفون على رفاه المجتمع، فكلاهما يرى في الترتيب سبيلاً لأن يصبح الإنسان شخصاً أعظم وأقوى من صورته الراهنة.
هل يمكن أن يكون هناك شيء سيء ولو قليلاً في المعلمة المحبوبة وسحرها الذي يغير الحياة؟ قد يهتم المتشككون في كوندو بالقراءات “الساخرة” لحوار زينوفون. وغالباً ما يرى هؤلاء أن الفشل المنزلي الذي يصلحه إيسكوماكوس من خلال “تثقيف” زوجته ليس علامة على عدم كفاءتها بل على عدم كفاءته هو. وبعبارة أخرى، فإن فانتازيا التحكّم المثالي الذي يقدمه التنظيم المنزلي قد يجذب معظمنا من الذين يشعرون أننا بحاجة إلى السيطرة على كل جانب من جوانب الحياة، حتى أولئك الذين يقاومون حلول التخزين البسيطة. وربما الفوضى الأكبر ليست في خزائننا بل في عقولنا.
الكاتبتان: يونغ إن تشاي كاتبة ومحررة عامة في Eidolon وهي مجلة إلكترونية تُعنى بالدراسات الكلاسيكية. وجوهانا هانينك أستاذة مشاركة في الكلاسيكيات بجامعة براون. وستصدر الشهر المقبل ترجمتها لخطب ثوسيديدس بعنوان “كيف نفكر في الحرب: دليل قديم للسياسة الخارجية“.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
المراجعة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
Socrates Wants You to Tidy Up, Too
Yung In Chae and Johanna Hanink
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”
