في ظل المشهد الثقافي الذي نشهده في المجتمع السعودي، والإقبال الممتاز على الاشتغال بالفلسفة كان ولابد من وضع أسس لهذا النوع من النظر[1]، فالفلسفة كغيرها من العلوم مرت بأطوار عدة فمن مهام الفيلسوف ومن لهم عناية بهذا الحقل النظر في تاريخها فكما يقول شيلنغ بعبارة فصيحة “التاريخ معمل الفيلسوف” وفي هذا إشارة إلى الفرق بينها وبين العلوم التطبيقية التي تعتمد المنهج التجريبي، وشهدت صعودا منذ القرن السادس عشر، إلا أن هذا التحقيب للتاريخ لا يعني بأنه لم يكن هناك منهج تجريبي في العصور السالفة فقد كانت هناك محاولات نذكر منها على سبيل المثال كتاب الحيوان لأرسطو والقانون لابن سينا في بعض جزئياته والمناظر لابن الهيثم وغيرها، إلا أن الفارق من زاوية واحدة[2] أن المنهج التجريبي في العصر الحديث صار ثقافة مؤسساتية مما جعله خطابا للنخبة المثقفة وطريقا آحادياً لكشف قوانين الطبيعة، وهذا انتقال يعرف في تأريخ العلم بين المنهج الكيفي إلى المنهج الكمي والذي يقوم رأسا على الرياضيات والهندسة. والسؤال الذي قد يتبادر في ذهن القارئ: لماذا ندرس تأريخ الفلسفة؟ الإجابة على هذا السؤال لها شقان: الأول أن تاريخ الفلسفة يعلمنا كيف ولد العلم والفرق الذي حدث مع ولادة العلم والأهم أن دراسة تأريخ الفلسفة يضعنا في موقف حاد بين طريقين للتفلسف إما التجريبية ومن ثم العلم وإما العقلانية ومن ثم يكون العلم عاضدا لها وليس الأساس، وهنا نصل إلى الشق الثاني من الإجابة وهو: هل يمكن التوفيق بين الفلسفة والعلم؟ وهل هناك فرق أصلا؟ بمعنى موجز: هل للعلم فلسفة؟ بذلك نصل لجوهر الشق الثاني من الإجابة وهو: ندرس تأريخ الفلسفة من أجل الخوض في الفرع الحديث نسبيا أي فلسفة العلم.
سوف أضع في هذه السلسة ثلاثة[3] عناصر عريضة لغاية بيداغوجية/تربوية ومنها نشتق بقية المواضيع التي نرى بأنها ضرورة “لروح” العصر الذي نعيشه وهي:
وليكن من الواضح من البداية بأنني لا أطمح إلى التقعيد والتأصيل والدخول في جزئيات التفلسف فهذا مما يثقل على المتعلم والدارس، فغاية هذه السلسلة تمهيدا للقارئ والباحث للدخول في هذا الحقل بمعنى أن الغاية التي وضعتها في مرمى النظر بيداغوجية تربوية، وتبقى المهمة الكبرى على عاتق القراء: أن يكون قادرا على التفلسف بكل جسارة.
وقد أختلف الفلاسفة في شأن ما يجب البدء به عند التفلسف، ويذكر الفارابي هذا الخلاف في كتابه (مبادئ الفلسفة القديمة) فمنهم من قال بأن المنطق هو أهم ما يبدأ به، ومنهم من قال وهو رأي الفارابي بأنه ينبغي إصلاح النفس الشهوانية وأن تكون الشهوة للفضيلة وبعد ذلك يتدرب على الارتياض في علم البرهان، ويقسم البرهان على ضربين: هندسي ومنطقي. ويستشف من الكانطية والهيغلية رأيان حيث يجد الأول بأن البدء يكون من نقد ملكة العقل ومعرفة حدودها بينما الثاني يرى بأنه من واجبات الفيلسوف دراسة تاريخ الفلسفة والحق أن الجمع بين الرأيين هو الأسلم.
وفي الفلسفة الحديثة أي منذ ديكارت صار الشك نقطة البداية في الفلسفة. وإن كان هناك من بداية نزمع أنها مطلقة وكلية فهي في نظري التأمل والتدبر، وقد أطلق عليه بعض الفلاسفة العناية بالنفس أو الاهتمام بالنفس، وسماه الرهبان والمتصوفة بالخلوة مع الذات، وعند المتكملين مرحلة النظر وهلم جرا.
[1] مع التشديد على أن الفلسفة وغيرها ليس لها أسس ثابتة أزلية ولكن القصد هنا هو وضع بعض الأسس التي ترسخت تاريخيا مع الحرص على أ، نفهم ذلك بالمعنى التربوي وكذلك المنهجي بحيث تكون الأسس هذه بمثابة السلم الذي نصعد عليه ثم نلقيه
[2] هنا فروق عدة ولكن ليس من الحكمة وضع كل ذلك في سلسلة مقالات مختصرة لتأريخ الفلسفة
[3] هذا التقسيم من اجتهاد الباحث ليصل للغاية التي وضعت من أجلها هذه السلسلة وهي التدريب على التفلسف لا حفظ تاريخ الفلسفة
[4] ولن نكشف كل المفاهيم حتى لا يطول المقال بل سأذكر ما يمهد الطريق لكل دارس في هذا الحقل