١٧ يوليو ٢٠١٧
هل مرّت عليك لحَظات ونظرت إلى حياة غيرك بشيء من الحسد؛ بحيث تود، في بعض الأحيان، أن تكون هم؟ مثلاً حياة ميشيل أوباما بما تجمعه من نعمة وشغف، أو حياة جورج كلوني بجاذبيته وخفة دمه؟ أو حياة يوسين بولت (= العداء الجامايكي) أو ليونيل ميسي أو أي شخص آخر مشهور في الرياضة؟ أو ربما حياة أشخاص ليسوا مشاهير، كأي شخصٍ تعرفه أنت وتعرف أن حياته رائعة: وظيفة مثيرة، وزوجة حنونة وجذابة، وشقة واسعة ذات إطلالة جميلة (ويحصل بالعادة على امتيازات في السفر). هل هناك لحظات كهذه تشعر بالإغراء إزاءها، لو أنه عُرِض عليك أن تكون هم؟
هل أنت حقاً تريد هذا؟ ولو كان بالإمكان جدياً أن نكون غيرَنا، ما الذي سوف نتعلّمه فيما يتعلق بأنفسنا وكيف نرى حياتنا؟
في الحقيقة، الأمر معقّد. فلو أنك امتلكتَ حياةَ شخصٍ آخرَ (= بحيث تصبح أنتَ هو)، فمن سوف يربّي أولادك؟ أو من سيحب زوجتك؟ أو يعتني بوالديك عندما يكبران في السن؟ في الواقع، فإنك لو كنتَ شخصاً آخر غير نفسك، فإن أولادك لن يكونوا موجودين من الأساس. هذا ليس أمراً مبهجاً. لمناقشة ذلك، لنتعامل مع الموضوع من خلال المقايضة: إذا كنتَ غيرَك، فلربما يكون هذا الغيرُ أنت (= إذا حللتَ محلّه سيحل محلَّك)، وسيعيش الحياةَ كما كنت ستعيشها. وكل مسؤولياتك سوف يتم الالتزام بها، فليس هناك إذن مجال للشعور بالذنب حول إهمال تلك المسؤوليات.
إذا فكّرنا في الموضوع بهذه الطريقة، فإن مسألة رغبتك في أن تكون غيرَك لا تعدو كونها مسألة ما يمكن تسميته “التجربة” (= أو الخبرة): فهل هناك شخصٌ تفضّل خبرتَه (= تجربة حياته)، على افتراض أن كل شيء آخر متساوٍ بينكما، فلا تختلفان إلا في الخبرة فقط؟
أحد التحفّظات المباشرة فيما يتعلق بإرادتي أن تكون لي خبرةُ غيري هي أن رغبتي أن أكون شخصاً آخرَ (أي أن أحوز على خبرته) متأصلة في القيم والرغبات التي أملكها؛ لذا فيجب، أولاً، أن أكون أنا لكي أريد أن أكون غيري. وبكل حالٍ، فليس من الواضح أن هذا يشكّل عائقاً أمام رغبتي. فيمكن لي أن أقول إنه بحسب رأيي ومعرفتي أن خبرتهم الوجودية والحياتية ستكون أفضلَ، وأنه سيكون هناك على الأقل تداخلٌ معهم بحيث أراهم يجسّدون قيمي ورغباتي، ولكن لديهم خبرات أفضل مما لدي. لذا فإنه يمكنني أن أظل راغباً في خبراتهم تلك.
بدلاً من ذلك، يمكن القول أنني، فعلاً، لا أعرف أي شخصٍ معرفة جيدة وكافية لكي أقرر ما إذا كانوا حقاً يمتلكون تلك القيم والرغبات. فالفكرة هي أني لا أعرف الآخرين معرفة كافية لكي أعرف إمكانية تبادل “الخبرات” معهم. لكن يظل من المحتمل أن يحاجج المرء بأنني أستطيع أن أكون شخصاً غيري بقدر ما أملك من معرفة عن ذلك الشخص.
أعتقد، بعد تدبّرٍ، أن معظمنا لا يريد المبادلة (= حياة بحياة) مع شخص آخر، بصرف النظر عن نجاح وجاذبية حياة ذلك الشخص، بل وحتى لو كان كذلك فعلياً. لمعرفة السبب، فإننا سنحتاج أن نغيّر زاوية النظر: سننظر إلى خبراتنا بدلاً من خبراتهم (= خبرات من نرغب المبادلة معهم)، أو لننظر أولاً في خبراتنا. ما الذي أرغب في أن أتخلّى عنه لكي أكون غيري؟ علاقاتي مع الآخرين (أولادي، زوجتي، أصدقائي- أي تاريخي ككل)؟ لا يمكن لي القيام بهذا. فخسارتي هنا ستكون خسارة لكامل خبرتي.
بالطبع هناك أشخاص عاشوا حياة بالغة الصعوبة، ولربما أن لديهم الاستعداد للمبادلة بحياتهم مع آخرين حياتهم أفضل. لكن كم منا من يجد نفسه في مثل هذه الحياة البائسة؟
لدي تاريخ خاص مع أناس أهتم لهم كثيراً. وبالطبع، فالشخص الذي تبادلتُ الحياة معه لديه كذلك أشخاص يعتني بهم، وفي الوقت عينه، فإني سأكون قد فعلتُ من أجلهم ما يجب فعله. لكن عندها فإن تاريخ خبرتي الخاصة قد تلاشى. وبدلاً من ذلك صار لي تاريخ مع أشخاص آخرين لا أعرفهم إضافةً إلى الناس الذين كانت لي علاقة بهم. كيف سيكون الوضع هذا؟ في الواقع لا أدري. يمكن أن يكون للشخص (= الذي أحل محله) وظيفة ممتعة، وأن يكون وضعه المالي مريحاً، وأنه مشهور أو وسيم. لكن هل اختلاف حياة وخبرة هذا الشخص عني كافية بشكل عميق لأن أرغب في المبادلة معه؟
عند هذا المستوى، فإننا كمن يسأل عما إذا كنتُ سأقايض بخبراتي وعلاقاتي العميقة بعض السلع التي تبدو غير مهمة كأهمية خبراتي وعلاقاتي. بخلاف ذلك، فالمقايضة الحقة هي التي أقايض فيها خبراتي وعلاقاتي بوسائل الراحة لديهم، إضافة للأشياء المهمة- أشياء لديهم لست مطلعاً عليها.
النظر بهذه الطريقة (= تبادل الخبرات وكأنها سلع) يجعل هذه المقايضة مقايضة غير واعدة.
فمن بين الاعتراضات، هي أنه مادامت علاقاتهم جيدة- بحيث إنهم مستمتعون بها- فلستُ بحاجةٍ إلى أن أعرف بدقةٍ طبيعتَها. لكن هذا الاعتراض ينطوي على مشكلة: فحتى لو كانت تلك الخبرات جيدة، أليست هي ما أريد المبادلة به؟ ههنا تبدأ قيمي ورغباتي، التي اكتسبتها طوال تاريخ حياتي، تصبح ذات قوة مؤثرة. فالخبرات التي أعطيتها قيمةً في حياتي ناجمة، ليس ببساطة من حقيقة أنها ممتعة، بل من حقيقة أنها الخبرات التي منحتها قيمةً. ولقد منحتها تلك القيمة لأنني أنا (= نابعة من صميم وجودي).
إذن، فالمسألة ليست فقط أن خبرات الشخص الآخر جيدة، لكن علاوة على ذلك ووراء ذلك فإنها هي الخبرات التي أريد أن أحوز عليها، وأنها التي أملك سبباً مقنعاً بأن أستبدلها بخبراتي أنا. خبرات الآخر ينبغي أن تكون مشابهة لخبراتي- أي تلك الخبرات البالغة الأهمية عندي- لكي تصبح مرشحةً أن للمبادلة أو المقايضة. ولا يبدو ذلك أمر لا أعرفه فحسب، بل هو كذلك أمر غير محتمل.
فوق ذلك، فنحن نرى أن ثمة خبرات وتجارب شتى قاسية تمر بأناس عزيزين علينا، فنعاني ما يعانونه ولا نأسف لذلك. على سبيل المثال، قد يعاني طفلٌ من صعوبات اجتماعية، أو يكون أحد أصدقائنا قد خسر وظيفته. في هذه الحالة فإن تلك المعاناة ليست معاناتهم فقط، بل نحن نخبر ما يعانون من خلال تعاطفنا وشعورنا بألمهم، وكذلك نشد أزرهم وهم يقاومون تلك الصعوبات. ونرغب حقاً في لو أنهم لم يقعوا في تلك الصعوبات. ولكن بما أنهم تعرضوا لها، فسنكون هناك معهم، داعمين لهم، ولن نرضى أن يكون غيرنا هناك بدلاً عنا، حتى ولو كانت خبرات مؤلمة وغير سارّة لنا.
إذن، فنحن لا نرغب أنهم لم يتعرضوا لتلك الصعوبات في المقام الأول، لكننا لا نهتم في هذه الحالة بأنفسنا بقدر اهتمامنا بهم (= أي بأهلنا وأصدقائنا مثلاً). لكن بما أن هذا حدث لهم، فإننا لن نمانع أن نخوض معهم نفس المعاناة المؤلمة. وفوق ذلك، فإنه بقدر ما أن تلك الخبرات قاسية لنا، فإننا قد نفضل، من أجل مصلحتنا الخاصة، أنها لم تحدث، لكن هذه مسألة بسيطة. فالمسألة هنا هي كيف لحياتنا أن تعاني لحظات قاسية، وليست مسألة مقايضة حياتنا بغيرها. مسألة مقايضة حياتنا بغيرها ينبغي أن تنهض على الرغبة، ليس في أن تكون لدينا علاقات سيئة على الإطلاق، بل في المحن التي تنتج عنها.
عندما أُسأل عن مقايضة حياتي بحياة آخر، فإني أنطلق من وجهة نظري الخاصة وأسأل ما إذا كنتُ أرغب في علاقات ذات خاصية معينة من تلك التي يمتلكها الآخرُ. ومهما تكن تلك الخاصية، فمن المحتمل أنها تختلف عن علاقاتي الخاصة، هذه العلاقات التي لها معنى عميق في نفسي. فأنا أقارن ما أمنحه قيمة في خبرتي بما أمنحه قيمة في خبرة تكمن خاصياتها المهمة في أنها خارج نطاق ما أملك. عندما نفطن لهذا، فإن المقايضة، بالنسبة لأغلبنا، لن تكون على الأرجح في متناول اليد.
نحن نعيش في عالمٍ تعد فيه حياة الناس ذوي الشهرة والاعتبار والتأثير والجمال حياة تستحق أن نسعى إليها أو نجعلها نموذجاً يلهِمنا. ولا نقول، بالطبع، أن الإلهام أو استلهام الغير في ذاته خاطئ، لكن المشكلة هي أنه عندما يتم تقديم حياة أولئك المشاهير والمؤثرين على أنها الغاية المثلى التي يجب أن نسعى إليها، فإن هذا ينعكس سلباً على تقديرنا لحياتنا الخاصة فننسى ما لها من قيمة وأهمية لنا. نحن في عصر السعي المفرط للتملّك، وكذلك عصر أصبحت فيه القيود المعيارية على التملك ضعيفة، لذا فمن المريح، وربما الضروري، أن ندرك بأننا إذا ما خُيّرنا بين تواريخ الأشخاص، فإنه من الأرجح أن نختار تاريخنا الخاص.
الكاتب: أستاذ ذكرى دفعة ١٩٤١ في مجال العلوم الإنسانية بجامعة كليمسون. أحدث كتبه هو “حياة هشة: قبول ضعفنا.”
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
المراجع: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
?If You Could Be Someone Else, Would You
Todd May
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”