عبدالله الغانم
في أحيان كثيرة، نجد أنفسنا مشدودين إلى نصوص شعرية تبدو بكلماتها بسيطة، بل وربما ساذجة ظاهريًا، لكنها تمتلك سحرًا يجعلنا نكررها دون وعي، كأنها تحوي قوة خفية تتجاوز معانيها المباشرة. هذا هو جوهر التأثير الصوتي، حيث لا يعتمد الشعر على دلالاته اللغوية فحسب، بل يمتد إلى إيقاعه الداخلي، إلى الموسيقى التي تمنحه طاقة خاصة تجعله ينبض بالحياة.
يتجلى هذا السحر في أغاني فيروز، حيث تتراقص الكلمات على إيقاع داخلي يمنحها أبعادًا تتجاوز معانيها الظاهرة، فتصبح كل جملة نغمة تمس شيئًا عميقًا داخل النفس. هناك قصائد معقدة، مليئة بالصور الفكرية والرمزية، لكنها تظل بعيدة عن التأثير لأنها تفتقر إلى الانسيابية الموسيقية، إلى ذلك الجرس الداخلي الذي يمنح الشعر روحه الطربية. وكما أن الموسيقى، حتى في غياب الكلمات، تترك أثرًا عاطفيًا عميقًا، فإن الشعر يفقد الكثير من تأثيره إن لم يكن محملًا بطاقة صوتية قوية.
الغناء ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو لحظة تحرر من الزمن، حيث تنفصل الذات عن رتابة العيش اليومي وتعيد تشكيل العالم وفق انفعالاتها. الإنسان لا يغنّي فقط ليعبر عن نفسه، بل ليعيد خلقها عبر الصوت، ليؤكد أنه موجود، ليس من خلال الفعل وحده، بل عبر النغمة التي تجعله أكثر سطوعًا في الكون. لهذا، يُقال إن الأغاني تُؤدَّى ولا تُقلَّد، لأن التقليد استنساخ يقتل الروح، في حين أن الغناء الحقيقي فعلٌ حي، يتغير ويتجدد مع كل أداء، كأنه ولادة مستمرة للصوت والمعنى.
لكن الكلمات في الغناء ليست غاية بحد ذاتها، تمامًا كما أن الصوت ليس مجرد وسيلة، بل هما عنصران يندمجان في تجربة لا يمكن تفكيكها. النص وحده يبقى مجرد كتابة، والصوت بدون إحساس يصبح مجرد ترددات، لكن حين يلتقيان في لحظة صادقة، يتحولان إلى كيان نابض بالحياة، يتردد صداه في الوجدان قبل أن يمر عبر الأذن.
لم يكن الغناء يومًا استعراضًا صوتيًا، بل طقسًا إنسانيًا بدائيًا، حاجة فطرية للتواصل مع الكون. لم يغنِ الإنسان الأول لأنه امتلك صوتًا جميلًا، بل لأنه أراد أن يُسمع، أن يعلن حضوره في هذا العالم. كان الغناء نشيد الكينونة، حيث لا تُقاس الأصوات بمعايير أكاديمية، بل بقدرتها على النفاذ إلى القلب، على خلق صلة بين المغني والوجود من حوله. الغناء العظيم ليس مجرد إتقان تقني، بل حضور طاغٍ، روح تتجلى في الذبذبات، تجعل السامع يشعر بأنه أمام تجربة صادقة، لا مجرد عرضٍ فني محسوب بدقة.
الصوت الجميل ليس هو الصوت المثالي بالضرورة، بل الصوت القادر على حمل الإحساس بصدق. كم من مغنٍّ يمتلك قوة صوتية هائلة لكنه لا يترك أثرًا، وكم من صوت متواضع يحمل في ذبذباته ما يكفي لملامسة الروح. الغناء ليس مجرد تحكم بالأوتار الصوتية، بل هو تعبير عن المشاعر عبر النبرة، عن الانكسار في الامتداد، عن ذلك الارتجاف الذي يسبق البكاء، عن الهمسة التي تحمل ألف معنى. لهذا، لم يكن المغني العظيم عبر التاريخ هو صاحب الصوت الأجمل دائمًا، بل من يجعل صوته جسرًا لعبور المشاعر، لا مجرد وسيلة للإبهار.
انظر إلى المغنين الشعبيين أو المرتلين الصوفيين، أولئك الذين لا يقيدون أصواتهم بقواعد صارمة، بل يتركونها تتدفق كصرخة داخلية، كرغبة في الذوبان في اللحظة. الفارق بين مغنٍ وآخر لا يكمن فقط في خامة الصوت، بل في طريقته في حمل المعنى، في استخدامه للصمت بقدر ما يستخدم الصوت، في قدرته على جعل كل نغمة امتدادًا لحالة شعورية خاصة. هنا، لا يعود الصوت مجرد ذبذبات، بل يتحول إلى لغة مشاعر تحفر أثرها في القلب بلا استئذان.
الموسيقى لا تقتصر على ما يُسمع، بل تمتد إلى ما يُحس. هناك من يستمع بحثًا عن الصدق والتجربة، وهناك من يبحث فقط عن متعة زائلة. لهذا، لا يُقاس الغناء بجمال الصوت وحده، بل بقدرته على النفاذ إلى الداخل، حيث لا تعود الأذن مجرد مستقبِل، بل بوابة لعبور الأحاسيس، في تجربة يتشاركها المغني والمستمع معًا.
يمكن النظر إلى الغناء، من منظور فلسفي، كحالة من الفيض الروحي، حيث يتحرر الصوت من ماديته ليصبح امتدادًا للوجود، كأنه يبحث عن أفق يتجاوزه. هذه الفكرة تستعيد التصورات القديمة التي رأت في الغناء فعلًا إلهاميًا، يتجاوز حدود المهارة أو الحرفة. لم يكن الشاعر القديم يغني لأنه امتلك صوتًا جميلًا، بل لأنه “مسكون” بقوة تفوقه، صوت ينبع منه لكنه لا ينتمي إليه وحده، بل إلى شيء أعمق يتحدث عبره. ولهذا، يُقال إن الأغاني تُؤدَّى ولا تُقلَّد، لأن التقليد ليس إلا استنساخًا يقتل روح الأداء، بينما الغناء الحقيقي فعل حيّ، يتنفس مع صاحبه، ويتشكل وفق لحظته الخاصة، في تجربة لا يمكن اختزالها في تسجيل ثابت.
لكن التقليد، في جوهره، مستحيل. إذ لا يمكن لأي ذات أن تعيد فعلًا ما دون أن تحوله، لأن كل ذات تبني تجربتها على ما لا يمكن استبداله، وهو “الأنا”. إن ما نطلق عليه تقليدًا ليس سوى مجاز، لأن التقليد المطابق ضرب من الوهم، واستحالة أنطولوجية. حتى حين يحاول المغني أن يكون مطابقًا لصوت آخر، فإن صوته يظل متفردًا بحضوره، بصدى تجربته الخاصة، بإيقاع وجوده الذي لا يشاركه فيه أحد. كل أداء هو إعادة خلق، وليس استنساخًا، وكل صوت هو أثر ذاتي غير قابل للذوبان في غيره.
لم يكن الغناء يومًا مجرد استعراض لمهارة صوتية، بل كان دائمًا طقسًا إنسانيًا بدائيًا، وسيلة للتعبير والوجود، صرخة تعلن “أنا هنا”، قبل أن يصبح الصوت أداة للزخرفة أو التجميل. حين كان الإنسان الأول يغني، لم يكن يبحث عن الكمال، بل كان يعبر عن جوهره، ولهذا اكتسب صوته جماله. فالغناء ليس مجرد خاصية تقنية، بل انعكاس لحاجة داخلية تمنحه معناه العميق، حيث لا تُقاس الأصوات بقواعد أكاديمية، بل بقدرتها على النفاذ إلى الروح، على خلق صلة بين المغني والعالم من حوله. ولهذا، فإن الغناء العظيم لا يتجلى في جمال الصوت وحده، بل في حضوره الطاغي، في الطريقة التي ينطق بها المغني الجملة الموسيقية ليجعلها تعبيرًا صادقًا عن تجربة إنسانية.
التجربة تثبت أن المغني العظيم ليس بالضرورة صاحب الصوت الأكثر مثالية، بل من يستطيع إيصال شعور حقيقي، من يجعل صوته امتدادًا لإحساسه، لا مجرد وسيلة للإبهار. خذ مثلًا أصوات المغنين الشعبيين أو المرتلين الصوفيين، الذين لا يتقيدون بقواعد الغناء الأكاديمي، بل يتركون أصواتهم تتدفق بحرية، كصرخة داخلية، كرغبة في الذوبان في اللحظة. هذه الأصوات قد لا تلتزم بمقاييس الجمال التقليدي، لكنها تمتلك صدقًا يجعلها أكثر تأثيرًا من الأصوات المصقولة التي تفتقر إلى الروح.
وهذا يعيدنا إلى الفكرة الجوهرية: أن الشعر والغناء والموسيقى تنتمي جميعها إلى جوهر واحد، هو التناغم الصوتي. الموسيقى الصافية، حتى دون كلمات، قد تحرك فينا مشاعر تعجز النصوص الفلسفية الأكثر تعقيدًا عن ملامستها، وكذلك الشعر، إن افتقد إلى إيقاع داخلي، يظل أقل تأثيرًا من شعر بسيط لكنه مشحون بطاقة صوتية آسرة.
الصوت هو الأداة الأولى التي يُبنى عليها كل إبداع سمعي، وهو ما يجعل الكلمات، مهما بدت عادية، تنبض بالحياة حين تُقال بنغمة صحيحة، كأنها تتحول إلى أغنية خفية لا نسمعها بأذننا فقط، بل نشعر بها بكامل كياننا. ولهذا، يمكن اعتبار الشعر نوعًا من الغناء المقنّع، محاولة لتحويل اللغة إلى طاقة موسيقية قادرة على التأثير حتى في غياب الألحان. فالشاعر العظيم لا يكتب الكلمات فقط، بل يخلق موسيقاه الخاصة داخل اللغة، حيث تصبح كل وقفة، كل امتداد صوتي، جزءًا من لحن غير مسموع لكنه محسوس. وحين يُلقى الشعر برتابة، يفقد الكثير من سحره، أما حين يُلقى بإحساس وإيقاع داخلي، فإنه يتحول إلى غناء غير مُعلن، إلى طرب خفيّ.
الغناء ليس تكرارًا، بل خلق مستمر. كل مغنٍّ، حتى حين يؤدي نفس الكلمات على نفس اللحن، يمنحها بُعدًا جديدًا، يضع فيها روحه، يُغيّر تفاصيلها بلمسات غير مرئية لكنها محسوسة، يجعلها شيئًا آخر لم يكن موجودًا من قبل. هذه الخصوصية هي ما تجعل الغناء تجربة حية، وليست مجرد إعادة إنتاج. ولهذا، يُقال إن الأغاني تُؤدى ولا تُقلَّد، لأن التقليد ليس إلا تكرارًا جامدًا يقتل الإحساس. الغناء الحقيقي لا يقبل أن يكون محاكاة، بل هو فعل ديناميكي، يتنفس مع صاحبه، يتغير معه، يخرج منه مختلفًا حتى لو أراد أن يكون مطابقًا لما سبقه.
بين الإدراك والخلق: حين يصبح الإحساس موسيقى
الحكم على الأصوات بوصفها جميلة أو غير جميلة مسألة ذاتية، لكنها تتحول إلى مغالطة حين تُرفع إلى مرتبة الأحكام القطعية. فالتصوّر القائل بأن الصوت يمكن أن يُقاس بمعايير جمالية ثابتة هو شكل من أشكال العمى السمعي، حيث يعتقد صاحبه أنه يحتكم إلى معيار موضوعي، بينما هو في الحقيقة محصور في ذائقته الخاصة، أسير إدراكه المحدود. فالصوت ليس مجرد ظاهرة فيزيائية قابلة للقياس، بل تجربة متحولة تتلون بالسياق والانفعال. لذلك، لا تكمن جماليته في صفائه أو قوته فحسب، بل في قدرته على حمل الإحساس ونقله بصدق، على أن يصبح كيانًا نابضًا بالحياة، لا مجرد موجة صوتية جوفاء.
الإيقاع هو اللغة الأولى التي يفهمها الإنسان قبل أن يتقن مفردات الكلام، ولهذا قد يُطربنا صوت شاعر وهو يلقي نصًا بسيطًا، بينما لا نجد المتعة نفسها في قراءة نص آخر، رغم ثرائه الفكري. السر ليس في المعنى وحده، بل في الموسيقى الداخلية التي تمنح الصوت قوته، والتي تحمله من مستوى الدلالة إلى مستوى التجربة. فالصوت حين يشتبك بالإحساس، لا يعود مجرد وسيلة للنقل، بل يتحول إلى لحظة فيض، إلى شيء يتجاوز صاحبه ويتجسد في وجدان المستمع كحالة شعورية خالصة.
لكن الغناء ليس مجرد تجربة حسية، بل هو فعل إنساني خالص، وهو لذلك أسمى من كل جمال طبيعي. فالقيمة الجمالية ليست انعكاسًا آليًا للطبيعة، بل هي أثر العمل الإنساني، هي اللمسة التي يحوّل بها الإنسان المادة الخام إلى شيء يحمل بصمته، إلى شيء لم يكن ليكون بدونه. ولهذا، فإن لوحة فنية قد تبدو مشوهة أمام منظر طبيعي، لكنها من حيث قيمتها الجمالية أرقى من هذا المنظر نفسه، لأن الجمال لا يُقاس بصفته مجرد حضور مادي، بل بصفته أثرًا لصانع، تشكيلاً ينتمي إلى فعل وليس إلى مجرد وجود.
ومن هنا، فإن الانطلاق في الحكم على الصوت من حيث انعكاسه، أو من حيث كونه مجرد تفضيل فردي، هو غفلة عن هذه الحقيقة الجوهرية. إن الصوت الغنائي ليس مجرد اهتزاز في الهواء، بل هو إعادة تشكيل للعالم، هو تجريد الصوت من مادّيته ليصبح أثرًا شعوريًا خالصًا. الحكم عليه كذوق شخصي يختزله في بعده الفيزيائي، متجاهلًا أن كل تجربة إبداعية إنسانية لا تُقاس بمدى مطابقتها لمعايير سابقة، بل بقدرتها على تجاوز هذه المعايير وإعادة تعريف الجمال ذاته. إن مثل هذا الاختزال يقابل الوجود بالعدم، لأن رفض القيمة الجمالية للفعل الإنساني هو في جوهره إنكار لإمكان تحققها، وهذا باطل.
الصوت الغنائي، كأي تجربة إبداعية، لا يحتاج إلى مصادقة الذوق العام، لأن الفن لا يخضع للموافقة أو الرفض، بل هو فعل وجودي، يتجلى ويستمر بمعزل عن الأحكام المسبقة. الغناء ليس تكرارًا، بل خلق مستمر، لأن المغني حين يؤدي أغنية سبق لغيره أن أداها، لا يكون مجرد صدى لصوت آخر، بل يعيد تشكيلها وفق لحظته الخاصة، وفق إحساسه الذي لم يكن موجودًا من قبل ولن يكون مماثلًا في أي مرة أخرى. التقليد، من حيث هو تكرار مطابق، مستحيل أنطولوجيًا، لأن كل ذات حين تعيد إنتاج ممارسة ما، إنما تعيد خلقها وفق بنيتها الخاصة، وفق ما لا يمكن استبداله: “الأنا”.
المفارقة هنا أن الصوت، كحقيقة مادية، لا يخضع للحكم، بل هو موجود بمجرد أن يُطلق، سواء طابق الذائقة العامة أم لا. الحكم عليه لا يُلغي وجوده، لكنه قد يفرض عليه عزلة قسرية إذا ما استُخدم الذوق كأداة للإقصاء، بدلًا من أن يكون مساحة للتفاعل الحر. ولهذا، لا يمكن أن يكون الحكم الذوقي أكثر من موقف شخصي، ومن يرفعه إلى مرتبة المعيار العام يقع في فخ الهيمنة، حيث يتحول استحسانه أو رفضه إلى قاعدة تحكم الأصوات التي لا تنسجم مع معاييره.
إذا كان الغناء فعلًا إنسانيًا خالصًا، فلماذا يُشترط فيه الجمال؟ لماذا أصبح الحكم على المغني محصورًا في معيار الصوت العذب، وكأن الغناء فقد قيمته كفعل تعبيري وتحول إلى سلعة صوتية؟ هذه المحدودية في التصور تجعلنا نطرح سؤالًا أعمق: هل الغناء صوت جميل فقط، أم أنه تجربة تتجاوز الصوت نحو شيء أوسع وأعمق؟
أفلاطون في محاوراته كان يحذر من أثر الموسيقى على النفس، لكنه في الوقت ذاته كان يقر بأنها قد تكون مدخلًا إلى التربية الروحية، إذا ما كانت منسجمة مع الإيقاع الكوني. في النهاية، جميع الأصوات واحدة، كلها ترددات تهتز في الهواء، سواء كانت صوت شاعر أو مغنٍ، خطيب أو قارئ قرآن. الفرق ليس في طبيعة الصوت، بل في كيفية استخدامه، في الطريقة التي يُعاد تشكيله فيها ليصبح موسيقيًا. فالشعر حين يُقال بإحساس، يتحول إلى تجربة صوتية قائمة بذاتها، وكأنه نوع من الغناء الذي لا يحتاج إلى لحن خارجي، لأن اللحن ينبع من الكلمات ذاتها. ولهذا، فإن الشعر الذي لا يحمل طاقة صوتية داخلية لا يترك أثرًا، بينما الشعر الحقيقي، حتى وإن لم يكن موزونًا، يمتلك إيقاعه الخاص الذي يجعل المستمع يتذوقه كما لو كان أغنية غير مكتملة.
وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر أن معايير الجمال والقبح ليست مطلقة، بل هي انعكاس للإدراك البشري المتغير. لنتأمل أن “القُبْحَ بِأَخِيلَةِ النَّاحِتِ لَيْسَ القُبْحُ بِطِينِ النَّحْتِ”، فالجمال ليس خاصية ثابتة في الشيء نفسه، بل في طريقة رؤيته وتشكيله وإحساس المتلقي به. ما يُعتبر قبيحًا في نظر شخص، قد يكون تعبيرًا عميقًا عن تجربة إنسانية في نظر آخر. وهكذا، كما يُعاد تشكيل الأصوات والألحان، يُعاد تشكيل معنى الجمال نفسه مع كل تجربة جديدة، مع كل إحساس متجدد.
في النهاية، الصوت ليس مجرد وسيلة لنقل المعنى، بل هو في حد ذاته تجربة شعورية، طاقة تتجاوز المفردات وتمنحها بُعدًا آخر. هو الوسيلة الأولى التي يُبنى عليها كل إبداع سمعي، وهو ما يجعل الكلمات، مهما بدت عادية، تنبض بالحياة حين تُقال بنغمة صحيحة، كأنها تتحول إلى أغنية خفية لا تُسمع بالأذن فقط، بل تُحسّ بكامل الكيان. هكذا يصبح الغناء أكثر من مجرد فن، بل لغة تتجاوز المعاني، وطريقة يختبر بها الإنسان وجوده، في لحظة يكون فيها الصوت امتدادًا للمشاعر، لا مجرد أداة للتعبير عنها.
حين يرى الإنسان شيئًا، حتى لو بدا له قبيحًا، ولم تتسارع إلى ذهنه معاني الجمال فيه، فعليه أن يتريث قبل أن يصدر حكمًا. فالحكم على القبح ليس كشفًا عن حقيقة في الواقع، ولا يعبر عن إدراك موضوعي، بل هو انعكاس لنقص في الرؤية، لعجز عن التقاط الأبعاد غير المرئية للجمال. إن الجمال ليس مجرد صفة في الأشياء، بل هو تجربة إدراكية، إسقاط للذات على العالم، كما قال الشاعر: “كن جميلاً يكن الوجود جميلاً”.
لكن كم من شخص لم ينتبه لهذا، واتخذ من إعلان القبح وسيلة لإيذاء الآخرين، متوهمًا أن إطلاق الأحكام القاطعة هو دليل على امتلاك وعي متفوق؟ في الواقع، ما يكشفه هذا السلوك ليس قبح العالم، بل قبح رؤيته له، قبح العجز عن التقاط ما في الأشياء من نور خفي. فالإنسان حين يرى القبح في كل شيء، لا يصف العالم بقدر ما يصف نفسه، يُسقط على الوجود صورةً متآكلة من داخله، ويجعل من ضعفه معيارًا عامًا للوجود.
غير أن القبح نفسه ليس سوى جانب من الضعف الإنساني، ذلك الضعف الذي تتحكم فيه الإرادة حين تدفع صاحبها نحو العدوان غير المبرر. فالقبح ليس خاصية في الشيء ذاته، بل هو نقص في إدراك الرائي، صورة منقوصة لم تكتمل في عينه. لهذا، لا يتحمل قبح العالم إلا من يستطيع أن يرى فيه الجمال، من يتمكن من النفاذ إلى جوهر الإنسانية وسط تشوهاتها، حيث يتصارع الإنسان مع ذاته بين السقوط والتسامي، وحيث يصبح الجمال إمكانية مفتوحة لا يدركها إلا من يتسع قلبه لرؤيتها.
إذا كان الحكم على جمال الصوت مسألة قطعية، فكم سيبقى من مغنٍّ ليغني؟ كل صوت، مهما بلغ من الكمال، سيجد من يراه غير جميل، لأن الذوق ليس قانونًا موضوعيًا، بل تجربة ذاتية متأثرة بالخلفية الثقافية والتراكمات الشخصية. ومع ذلك، هناك من يتعامل مع أحكامه الجمالية وكأنها معايير مطلقة، بل يرفعها إلى مرتبة “الدليل” على امتلاكه ذائقة خاصة، وكأن التذوق الفني بحاجة إلى إثبات عدائي يُظهر تفوقه.
أولئك الذين ينطلقون من سوء طوية، يستخدمون مثل هذه الأحكام كإمارة على تميزهم، لا لأنهم يمتلكون وعيًا جماليًا حقيقيًا، بل لأنهم يجدون في الإقصاء وسيلة سهلة للتباهي. إنهم لا يدركون أن الذوق ليس أداة للهيمنة، بل مساحة للاختلاف والتعدد. أعرف من كان يدعي امتلاك حسٍّ فني مرهف، بينما هو في الحقيقة لا يملك إلا جفاف الرؤية، وكان يقول عن مغنٍّ يكتب كلماته ويلحنها ويوزعها بنفسه: “هذا عليه إن غنّى، أن يغني مع أصحابه في رحلة برية، ويُستحسن ألا يفعل”.
هذا القول، رغم تفاهته الظاهرة، يعكس نموذجًا مكثفًا للسلوك الإقصائي الذي لا يهاجم الفن فحسب، بل يهاجم الوجود ذاته. وكأن صاحبه يقول: “ما دامت آرائي سطحية، وما دمت عاجزًا عن الخوض في الفكر أو الموسيقى أو النقد، فسأستغل هذه الثغرة في الثقافة المحلية لأمارس سلطة زائفة، مدعيًا وصلاً بالفن”. هذا النوع من النقد ليس إلا انعكاسًا لرؤية محدودة، تجسد فراغًا داخليًا، حيث يملأ التافهون مساحات النقاش بأحكامهم الجوفاء، معتقدين أنهم يحكمون على الأشياء، بينما هم في الواقع لا يحكمون إلا على أنفسهم.
إن الذين يسارعون إلى إثبات قيمتهم عبر تسلطهم على الفن وأصحابه، يشبهون من يتوهمون أن القوة تكمن في الأذى، في حين أنهم لا يملكون من القوة شيئًا. وكما أن البعوضة قد تدمي مقلة الأسد، فإنهم يمارسون تأثيرًا لحظيًا مزعجًا، لكنه لا يترك أثرًا إلا في حدود ضيق أفقهم. ومع ذلك، يبقى الفن، ويبقى الصوت، ويبقى الجمال، غير معنيٍّ بأحكامهم العابرة، لأن الإبداع لا يُقاس بمدى رضا العابرين، بل بقدرته على البقاء رغمهم.