تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
ليست تقنياتنا سوى أدوات، أما أعمالنا الإبداعية فإنها تضفي الحكمة على العالم.
هذا المقال جزء من “ذا بيج أيدياز”، وهو قسم خاص من سلسلة الفلسفة بجريدة نيويورك تايمز، ذا ستون الذي يجيب فيه عشرات الفنانين والكتاب والمفكرين على سؤال “لماذا الفن مهم؟”
عندما وافقت على كتابة هذا المقال، لم أكن أعرف أنني حين أجلس في النهاية لمعالجته، ستُغلَق جميع متاحفي المفضلة أبوابها أمام العامة، وكذلك جميع المكتبات والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية ودور السينما وبالتأكيد المعارض الفنية التي أرتادها. الأمر يشبه كما لو أن العالم قد تلاشى على غير المتوقع وتحول فجأة من الألوان الزاهية إلى الأبيض والأسود.
ولكن بدا لي أنه ما من لحظة أفضل للتأمل في أهمية الفن – أو ربما أهمية الثقافة نفسها – من تلك اللحظة التي يغيب فيها الفن أو تغيب فيها الثقافة غيابًا ماديًا شبه كامل.
هذا الفقدان التام للتجارب الفعلية والمحسوسة مع الفن أشبه بنوع من الانسحاب بالنسبة لي. إن تجربة الثقافة وتقدير قيمتها – الحاجة إليها – تبدو وكأنها متأصلة في وجودي، وبودي أن أقول إنها متأصلة في جنسنا. الفن ليس شيئًا يحدث على هامش حياتنا، بل هو في الواقع شيء موجود هناك في وسط حياتنا وهو محرك حقيقي لها.
كما قالت أمي ذات مرة: الفن هو الطريقة التي نبرر بها وجودنا.
لقد كنا نصنع الفن لفترة تتجاوز تاريخنا المدون. يعود أقدم فن بصري وصل إلينا إلى ما يقارب أربعين ألف سنة، كذلك الذي نجده في لوحات كهوف سولاويزي في إندونيسيا وإل كاستيلو في إسبانيا. أفترض أن هناك أعمالاً سابقة لم نعرف عنها شيئًا بعد؛ فقد كان إنسانُ النياندرتال، الذي يعتبر أعظمُ منافسينا في سباق التطور، أقوى وأكبر منا وكان حجم جمجمته أكبر من حجم جماجمنا، إلا أنه لم يخلف وراءه أي أدوات متطورة وترك القليل جدًا مما يمكن اعتباره قطعًا فنية. إحدى الحجج تقول إن خيال إنسان النياندرتال كان محدودًا، وإن طريقة تفكير الإنسان العاقل الأكثر تعقيدًا والأكثر مغامرة – أي التفكير الإبداعي – هي ما دفعنا إلى صدارة الجنس البشري.
الفن في تقديري ليس مجرد محاكاة محسوسة. فأعتقد أن متعته تكمن أكثر في كونه سعيًا فكريًا. الفن العظيم، بحد ذاته، مُعقَّد ويتطلب منا العمل عند التفاعل معه. ثمة لحظة رائعة، لحظة افتقدتها كثيرًا في الآونة الأخيرة، عندما تقف أمام عمل فني، وفجأة تجده يتحدث إليك. فالأعمال العظيمة تحمل معها الكثير من الرسائل والمعاني. وغالبًا ما تبقى هذه الرسائل لقرون عدة. أو ربما تتغير مع مرور السنين والعقود دون أن ندري، تاركةً قوة وتأثيرًا ثابتيْن.
يتبادر إلى ذهني لوحة “الوصيفات” لدييغو بيلاثكيث، والمتعة العظيمة التي أجدها في كل مرة أراها في فترات حياتي المختلفة في متحف برادو بمدريد. اليوم وأنا أفكر في لوحة “الوصيفات” في وسط هذا الواقع الجديد الذي تفرضه علينا جائحة كورونا، أتذكر مدى تطلعي لرؤية الأعمال الفنية في مساحاتها المادية مرة أخرى. فلا بديل عن مادية العمل الفني، التي ترتبط في النهاية وعلى نحوٍ ثابت بحواسنا وأجسادنا وببراعتنا التحليلية وفضولنا الفكري.
إن تقدير قيمة الفن في الغالب تجربة جماعية. فهو يجمعنا معًا عندما نذهب إلى المتاحف، وحفلات الافتتاح، والحفلات الموسيقية، وكذلك حينما نذهب لمشاهدة الأفلام، أو عروض الباليه، أو المسرح. نتجادل وأحيانًا نتشاجر، لكننا بالتأكيد لا نشن حروبًا حول المعاني الفنية. لعلي أزعم أن الفن والثقافة أهم وسيلتين نفهم من خلالهما بعضنا البعض. فهما يزيدان من فضولنا حول المختلف وغير المألوف، ويسمحان لنا في النهاية بقبوله وربما اعتناقه.
ألسنا نلاحظ أن المجتمعات الأكثر خوفًا من “الآخر – كالنازيين مثلًا والسوفييت في عهد ستالين والصينيين في عهد ماو – لم تكن قادرة على تقديم أي قطع فنية وثقافية تذكر؟ ومع ذلك، لا يزال يسيطر على خطابنا الثقافي ذلك الكم الهائل من الأعمال الفنية والثقافية التي أنتجت في مقاومة مثل هذه الأيديولوجيات.
في الآونة الأخيرة، احتدم النقاش حول وقوف الفن والثقافة في وجه صرامة العلم. وما يدعو للتشاؤم أن هذا السؤال يثقل كاهل كليات الولايات المتحدة وجامعاتها، حيث بات شأن العلوم الإنسانية أقل من أي وقتٍ مضى. وهذا منحنى خطير، فرغم أن العلم قد قدَّم إلى عالمنا الكثير من الأشياء الرائعة، إلا أن له يدًا في الكثير من منجزاتنا المشؤومة، كالحروب النووية، والعبث بالجينات، وتدهور الطبيعة.
بما أن الفن يمكنه أن ينفذ إلى مجاهل النفس الإنسانية، فإنه حين ينفذ إليها يساعدنا على الفهم، ويؤمل منه كذلك أن يساعدنا على التجاوز. إن الفن يرفع من معنوياتنا، وأعتقد أن رسالة الفن في النهاية تكمن ببساطة في أنه يجعلنا أناسًا أفضل.
أثبتت لنا الآلات، أثناء الجائحة، أنها مذهلة للغاية فقد ربطتنا ببعضنا البعض، وثقفَّتنا، وسلَّتنا؛ إلا أنها في نهاية المطاف محدودة. فقد وُلِدت الآلات من رحم العلم ولا تمتلك الخيال، علينا نحن أن نتخيل بالنيابة عنها.
مَن يعلم ما الذي يخبئه لنا المستقبل؟ إذا واجهتنا نحن معشر البشر بني الإنسان العاقل تحدياتٌ مرة أخرى، فلن يكون الذي يتحدانا إنسان نياندرتال ولا أي نوع آخر، بل سنواجه الآلات التي اخترعناها بأنفسنا. لا يمكن الانتصار في هذه المعركة دون أن نحفز أهم محركاتنا التي نمتلكها، وهي محركات الثقافة والإبداع؛ إذ يولد العقل من رحم تجاربنا الثقافية، وتختزن الأعمال الفنية ما في هذا العالم من حكمة.
ستمضي هذه الفترة الصعبة التي نعيشها منذ مدة، وقد منحتني المناقشات التي أجريتها مع المشتغلين بالفنون البصرية بعض أعظم الأوقات التي أشعر فيها بالتفاؤل. لقد ذهبت إلى الكثيرين أثناء عملهم في مراسمهم. أكاد أجزم أنهم سعدوا بالاستماع إلي، وكانت محادثاتنا في غاية التهذيب، رغم أني لم أستطع التخلص من شعوري بمقاطعتي لهم. فقد كان بين أيديهم ما هو أهم من الحديث إلي، لقد كانوا يصنعون الفن.
لا أطيق الانتظار لرؤية ما كانوا يعملون عليه. وأعدكم بأنني سأعرضه عليكم في أقرب وقت ممكن.
الكاتب: ديفيد زويرنر، تاجر أعمال فنية يعمل مع معارض فنية في نيويورك ولندن وباريس وهونغ كونغ.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Art Is How We Justify Our Existence
David Zwirner
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”