كلمة “مفهوم” مشتقة من المصدر “فهم”، وصيغت على وزن مفعول من الفعل المبني للمجهول. ومن هنا فالكلمة تعنى ما يُفهَم من اللفظ. وبتعبير آخر: المفهوم هو معنى الكلمة أو المصطلح.
في علم المنطق، وفي الفلسفة، المفهومُ هو معنى المصطلح. والمعنى ههنا نوعان حسب المناطقة: تصورٌ وماصَدَق. ويسمى أحياناً: تضمّنٌ وشمولٌ. فمصطلح “إنسان” كلمة لها تصور وماصدق. فالتصور هو الفكرة العامة كأن نقول “الإنسان حيوانٌ ناطقٌ”، أما الماصدق أو الشمول فهو تحديد معنى الإنسان بأفراده الذين يصدق عليهم التعريف، فنقول “الإنسان هو محمد وعلي وليلى وعمر.. إلخ”.
مما يلاحظ فالتصور هو تعريفٌ بالصفات المميِّزة للمعرَّف. بينما الماصدق هو تعريفٌ بتعداد الأفراد الذين يشملهم اللفظ أو يصدق عليهم. والتعريف يكون أساساً معرفياً للحكم. فعندما أقول “سقراط إنسان” فإني أقصد أن سقراط فرد ينتمي لفئة الإنسان (وهذا تعريف بالماصدق)، أو أن سقراط حيوان عاقل (وهذا تعريف بالتصور). ففي الماصدق أدرجُ سقراط في فئة كلية، وفي التصور أوضّح الصفات الماهوية التي تلازمه.
المفهوم لا يكون فردياً إنما يعبّر عما هو “كليّ” أو “نوعي”؛ فكلمة “سقراط” ليست مفهوماً بل اسمٌ يشير لفرد بعينه، بينما كلمة “إنسان” فمفهوم لأن الكلمة تدل على تصور لماهية الإنسان وتنطبق على النوع الإنساني ككل وليس على فرد بعينه.
أشرنا آنفاً إلى أن التعريف ضروري لإصدار الأحكام. فكما قيل “الحكم على الشيء فرع من تصوره”. فلا يمكن للمرء أن يحكم على – لنقل مثلا الليبرالية- وهو لا يعرف معناها. والتسرع في الأحكام يعد آفة من آفات العقل. لكن موضوع المقال سوف يقتصر على مشكلة إبستمولوجية برزت في الفكر الفلسفي المعاصر، وهي مشكلة الاستقراء.
الاستقراء هو الانطلاق من الشواهد الجزئية لتكوين قانون عام. لاحظَ الإنسانُ مثلاً أنه عندما عرّض قطعة من الحديد على النار انصهرت وتمددت. وفي ظروف أخرى تكرر الحدث. وبالمثل تمددت أيضاً قطع من الذهب والنحاس وغيرها عندما لامستها نار قوية. فخرج الإنسان بقانون كلي “كل المعادن تتمدد بالحرارة”. مشكلة الاستقراء تكمن في التالي: لقد اختبر الإنسان عينة من المعادن فقط وليس كل المعادن الموجودة في الكون. فلماذا قفز هذه القفزة اللامبررة من “بعض” إلى “كل”؟
ألا يمكن أن نجدَ غداً قطعة معدن لا تتمدد بالحرارة؟ ليس هناك في طبيعة الكون ما يمنع أن نجد معدناً لا يتمدد بالحرارة. وهذه الفكرة طرحها ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر وأثار بذلك مشكلات لم تنته حتى اليوم. وكان فلاسفة المسلمين والمتكلمون قد انتبهوا إلى هذه المشكلة أيضاً ولاسيما مع أبي حامد الغزالي.
الآن دعونا ننظر في علاقة الاستقراء بالتعريف وبفلسفة المفهوم:
من الجلي أن علماء الاستقراء ينالون الحد أو التعريف عن طريق التجربة والملاحظة، فيصلون إلى تعريف مثل “المعدن هو قطعة صلبة تتمدد بالحرارة”. والحكم الناجم عنه ليس سوى رفع التعريف إلى المقام الكلي، أو تسوير القضية كما يقول المناطقة، فينتج لنا “كل المعادن تتمدد بالحرارة”. والحكم هو قانون مضمر. لكن لو افترضنا أننا وجدنا في الغد الباكر قطعةَ حديدٍ لا تتمدد بالحرارة فإننا نكون أمام أمرين: إما أن نغير تعريف المعدن أو نعتبر هذه القطعة من الحديد ليست من المعادن. وكلا الأمرين غير محمود العواقب.
علماء الاستقراء يزعمون أنهم منفتحون على التجربة وبالتالي مستعدون لأن يغيروا أو يعيدوا صياغة قوانينهم. لكن بعض العلماء، من جهة أخرى، خافوا من أن تدخل العشوائية والتحكّم في تقرير الأحكام والقوانين. فثمة مبدأ لديهم يسمى التحقق التجريبي. وهو تطوير قام به فلاسفة الوضعية المنطقية لنظرية المطابقة في الصدق. تقول النظرية إن العبارة “الثلج أبيض” صادقة إذا، وإذا فقط، كان الثلج في واقع الحال أبيض. وهكذا فالحكم يستمد مشروعيته من الواقع ذاته وليس عشوائياً.
لكن لننظر في العبارة الأخرى “كل المعادن تتمدد بالحرارة” تكون صادقة إذا، وإذا فقط، طابقت واقع الحال. المشكلة متعلقة بكلمة “كل”. فنحن لا نستطيع ملاحظة كل المعادن بل بعضها. وهكذا فالاستقراء محكوم عليه أن يظل ناقصاً. ولكن الإشكال هو أننا لا نجد مسوغاً معقولاً للانطلاق المفاجئ من الجزئي إلى الكلي.
حاول كارل بوبر أن يحل المشكلة من خلال رفض مبدأ التحقق واقتراح مبدأ القابلية للتكذيب كبديل له. بوبر نشأ في ظل سيادة النزعة العلموية التي ترى أن كل قضية علمية يجب أن تكون قابلة “للتحقق” التجريبي. ولكنه رأى أن نظرية إنشتاين تقبل التحقق بمثل ما تقبله نظريات ماركس وفرويد وأدلر. وبسبب النزوع العلموي لدى بوبر اقترح أن الفرق بين نظرية إنشتاين ونظرية الآخرين يكمن في أن الأولى كانت معرضة لخطر التكذيب لو أن تجربة إدنجتون لم تنجح. أما النظريات النفسية والاجتماعية فلم تتعرض لمثل هذه المخاطرة؛ إذ يمكن أن نجد صراعاً في بعض المجتمعات غير نابع من التفاوت الطبقي كما تزعم النظرية الماركسية!
إلى الآن وبوبر يسير في طريق صحيح. لكنه عندما ربط بين النظريات النفسية والاجتماعية وبين الكهانة والتنجيم وقع في طيش العلموية.
الذي ميز بين نظرية النسبية والنظريات الإنسانية ليس، في الواقع، عدم التكذيب فقط بل طبيعة الموضوعات المدروسة. فإنشتاين كان يدرس موضوعا ماديا (الضوء) وليس ظواهر إنسانية. ولا يخفى أن الأخيرة عرضة للتقلب والتغير والمزاج الفردي. أما الضوء فلا فرق، وليست هناك حزمة ضوء أكثر حباً للحياة من حزمة ضوء أخرى، أو أكثر تحرراً من غيرها، مثلا!
دراسة الظواهر الإنسانية لن تكون دقيقة لأن كل عنصر فيها (وهم الأفراد) لهم وجود متميز ومتفرد وحر وواع ويخالف التوقعات والتنبؤات العلمية الدقيقة.
يرى بوبر أن ما يميز قضايا العلوم الإنسانية وقضايا الكهانة والتنجيم هو ما أسماه بـ(المناورة الاصطلاحية conventionalist twist ) وهي نوع من الحيل البلاغية والمنطقية لتجنيب النظرية أي تكذيب.
لفهم ذلك دعونا نتذكر مغالطة الرجل الإسكتلندي:
يقول أحد سكان إسكتلندا: كل الإسكتلنديين كرماء. فيرد شخص: إن “جون” إسكتلندي ولكنه غير كريم. فيجيبه: إذن هو إسكتلندي غير أصيل.
والفكرة أن النظريات الإنسانية تستطيع التحايل على التكذيب من خلال المناورة الاصطلاحية؛ أي تقوم بتعديل التعريف كلما صادفت شواهد ضدها. لكن مما لم ينتبه له بوبر أن هذه المناورة يمكن تطبيقها في القضايا العلمية أيضاً.. لننظر في المثال التالي:
“كل البجع أبيض”.
هذه قضية علمية حسب بوبر لأنه يكفي أن نجد بجعة واحدة سوداء من بين ملايين ملايين البجعات البيضاء لتكذّب التقرير أو القضية أعلاه. لكن، ماذا لو قال المتحمسون للقضية: (ما دامت هذه البجعة غير بيضاء فهي ليست بجعة أساساً؛ لأن من تعريف البجع أنه “طائر أبيض مائي له جيب تحت منقاره”).
في هذه الحالة لا أعتقد أن مبدأ التكذيب سيعمل بنجاح. وهذا يحيلنا إلى الفلسفات العلمية التي ترى أن معايير العلم تركيبية مصطنعة وليست معايير مطلقة. أو أن “التعريفات” هي في الأساس أدلة إرشادية كما يقول فتغنشتاين، ولا تعبر عن الواقع بقدر ما تعبر عن اعتقادات العلماء ومناهجهم.
مبادئ التكذيب والتحقق ونحو ذلك لا يمكن لها أن تجري في واقع مفارق خال من القيم ومن الاعتقادات المسبقة، ومادام الواقع الذي تجري فيه التجارب واقعاً فينومينولوجياً، أي تم تحديده عبر سلسلة طويلة من خبرات العلماء الواعية والقصدية، فإن مبادئ التجربة عموماً لن تكون دقيقة أو خارج حدود الزمان والمكان.
لا ريب أن منهج التكذيب يقدم تمييزاً مفيداً ودقيقاً بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية. لكن ثمة مضمرات يصادر عليها كارل بوبر دونما فحص. مثلا، لا ندري بالتحديد ما إذا كان مبدأ القابلية للتكذيب هو أساس ميتافيزيقي لتحديد ماهية العلم أم أنه ينهض على تصور مسبق لماهية العلم؟ بعبارة أخرى: هل العلم هو كل ما يقبل التكذيب أم أن كل ما يقبل التكذيب علماً؟
ما يهمنا الآن هو أن ثمة إشكالية منهجية عميقة لم يتم فحصها جيدا، وهي تعريف “التعريف” نفسه. لننظر في القضية التي يستشهد بها بوبر “كل البجع أبيض”. هذه القضية علمية لأنها تقبل التكذيب؛ أي ثمة إمكانية لوجود بجعة غير بيضاء، وهذا كفيل بهدم النظرية.
لنسير مع المثال إلى آخره، ولنفترض فعلاً أن كل البجع الذي رأيناه ورآه كل الناس هو أبيض. لكن –وبالصدفة- وجد فريق علمي جزيرة في المحيط معزولة وتفاجأ بوجود بجع أسود. فمن بين ملايين البجع لدينا الآن ، لنقل، خمسون بجعة سوداء. هذا الفريق العلمي سوف ينقسم إلى قسمين:
الفريق الأول سيرى أن القضية “كل البجعة أبيض” قضية كاذبة (وهي علمية بسبب هذه القابلية للتكذيب).
لكن الفريق الآخر سيقول: مهلاً، هذه الطيور الخمسون ليست من الأساس بجعاً. ومن ثم فالقضية تظل صادقة (من الواضح أن قضية هذا الفريق لن تقبل التكذيب بسبب هذا التحايل الاصطلاحي). لكن هل ما فعلوه تحايل ومناورة اصطلاحية؟
الفريقان الآن سيتوجهان إلى مستوى جديد من النقاش: ما هو البجع؟ كيف نعرّف البجع؟
هنا نعود لسؤال الماهية.. وهو سؤال فلسفي.
من حق الفريق الثاني أن يقول للأول: ما هو البجع؟ ألا ترون أنكم تصادرون على المطلوب عندما تقولون “البجع طائر أبيض.. إلخ” ثم تشتقون من هذا التعريف القضيةَ “كل البجع أبيض”؟ ثم إذا صادفتم بجعة سوداء قلتم إن القضية كذبت؟ مشكلتنا إذن ليست في مبدأ التحقق أو التكذيب بل في تعريف البجع. يبدو أن الفريق الأول متمسك بالتعريف الشائع للبجع، وهو تعريف غير مضبوط بل مشتق من الاستعمال اليومي للغة، وليس الأمر أنه يسير على مبدأ القابلية للتكذيب.
هل هذا يعني أن العلمَ ليس له أساس واقعي راسخ وإنْ هو إلا تركيبات ذهنية قام بها العلماء في فترة معينة وأنها قابلة للتغير مع تغير الزمان؟
هناك كلمات تنتمي لحقل دلالي واحد وهي: (التعريف، المفهوم، الحكم، التصنيف). فالشيء موضوع الدرس هو هو، وما يتغير ليس سوى زوايا النظر التي نراه بها، وأيضا منظومة المصطلحات التي نعرّفه بها. هذا الحقل الدلالي أسميه حقلَ الماهية. وسؤال الماهية، كما أسلفنا، سؤال فلسفي. والعلمُ يحتاج إلى النظر الفلسفي في هذا الموضوع لكي يتجاوز ملابسات اللغة. فلو لاحظنا فإن الاختلافات بين أصحاب مبدأ التحقق ومبدأ التكذيب هي اختلافات في طبيعة اللغة المستعملة وفي الحدود والتعريفات التي ينطلق منها كل عالِم دونما فحص دقيق وتحليل عميق.
(نشر في مجلة الجوبة، العدد ٧٢، صيف ١٤٤٢ هـ/ ٢٠٢١م)