يزيد بدر
” وأما ما يخص الحس الحيوي فإنه لا يُصار إلى تحريكه فحسب بنحو فيه من العنفوان والتنوع ما يفوق الوصف بطريق الموسيقى من حيث هي لعبة ذات قواعد لانطباعات السمع وإنما يعمل السمع فضلًا عن ذلك على تقويته إذ يصير بهذا لغة لانطباعات خالصة خالية من كل مفهوم”
(كانط، الانثربولوجيا، ص ١٥٢)
عندما يقول كانط “خالية من كل مفهوم” فهذا يعني أمرًا في غاية الأهمية من الناحية الفلسفية، فالمفاهيم عند كانط ذات أهمية في مشروعه النقدي بعامة حيث وجد في بحوثه النقدية أنه حتى تكون التجربة ممكنة لابد وأن تسبقها مفاهيم أو مقولات بالمعنى المنطقي، وهذه المقولات لا تكون ذات أهمية دون عيان تجريبي، والمهم هنا هو هذه النتيجة : لا إدراك بدون حدسيّ الزمان والمكان ومقولات الفهم . وعليه صار العالم الطبيعي أي موضوع العقل النظري مجرد فينومين أي ظاهر وليس نومين أي الشيء في ذاته، وكما هو واضح أن الظواهر لا تكون كذلك أي مجرد ظواهر إلا لوجود مفاهيم قبلية تختزلها وتغير فيها، ومن هنا ينص كانط صراحةً بأنه لا معرفة تملكها الذات إلا وهي مندرجة تحت الحس الداخلي أي الزمان، ومن ثم كل معارفنا زمانية، هنا يأتي السؤال : ما هو المعطى بعد ذلك؟ أي ما الشيء عند كانط؟ إن الشيء في هذا السياق لا يخلو من حدسيّ الزمان والمكان وقائمة مقولات الفهم، هذا ما خرجنا به حتى الان من الابستمولوجيا الكانطية، وسوف ننتقل إلى سؤال يبدو ضروريًا : إذا كان الشيء لا يظهر كما هو فكيف يمكن الظفر بالشيء كما هو دون أن يفرض عليه مقولات كهذه ؟ هذا هو سؤال الفينومينولوجيا الهوسرلية، وعليه جاء الشعار ” العودة للأشياء ذاتها” وحتى نظفر بالشيء كما هو كان على هوسرل أن يتخلى عن المقولات وغير ذلك من المفاهيم التي تسبق لقاءنا مع الشيء، من هنا جاءت الأدوات الظاهراتية كالإيبوخي أو تعليق الحكم والموقف الطبيعي والموقف الفلسفي، وكذلك القصدية ” كل وعي هو وعي بشيء ما”.
من البيّن أنه لا يهم أن يكون الشيء واقعيًا أم مثاليًا فالوعي يدرك الشيء ويظفر بماهيته عندما يحقق الرد الفينومينولوجي، بهذا المفهوم تجاوز هوسرل(كما يظن) سؤال حقيقة العالم الخارجي من عدمه، وهو في الحقيقة لم يتجاوزه بمعنى الإيجاب أو النفي بل جعله في حيز اللامبالاة، مع ذلك بقي هوسرل أسيرًا للذاتوية بمعنى أن الإنسان هنا مغلق داخل وعيه والحقيقة عنده ليست إلا ماهية الأشياء، كما أن هوسرل لم يحرر الشيء تمامًا من شوائبه بل أضاف له الأنا المتعالي كما في كتابه أفكار. ونلاحظ أن الشيء معه لم يعد واقعًا متحقق خارج الشيء على فرض أن الشيء في أصله ماهية بل تم اختزال الشيء في دائرة الوعي، ومن هنا يأتي السؤال : كيف ندرك الشيء بمعزل عن رده للوعي أو الأنا المتعالية والذاتوية ؟ من هنا جاء هايدغر ليحل هذه المعضلة تحت شعار ” ذهب الوجود في طيّ النسيان” الوجود المنسي ليس إلا هو المُتحجّب تحت ركام الأنا المتعالية و المنطق ومقولاته وكذلك تحت الذاتوية فالتهمة الهايدغرية ضد هوسرل هي أنه لم يحقق منهجه على أكمل وجه لنعود لسؤالنا : كيف نظفر بالشيء دون أن نفرض عليه شيء من خارجه؟ أي أن نعود للأشياء ذاتها
نلاحظ أن مقولة ” العودة للأشياء ذاتها ” تفترض أن “الشيء” في حال من أحواله لا يكون هو “ذاته” وعلى فلسفة ما كالظاهراتية بصيغتيها الهوسرلية والهايدغرية أن تنحّي ما يعترض الشيء كي يظهر، لذلك نسأل: هل هناك شيئين ومن ثم يكون أ دخيل على ب وعلينا رفع أ حتى يظهر ب كما هو ؟ أم أنه الشيء ذاته كما هو إلا أنه ليس كما هو ؟ الفرض الثاني يقوم على فرضية أن للشيء لو كان جسمًا ماديًا أعراض وجوهر وأنا أنفي هذه القسمة بينما الفرض الأول يفترض أن هناك شيئين فإن كان الشيء الأول هو ذات الشيء والثاني صورته الذهنية فأنا أنفي الصورة الذهنية، وعليه يبقى لنا مفهوم الشيء بمعزل عن مقولات الصورة الذهنية والجوهر والعرض، من هنا نسحب “الأرض الفلسفية” من الميتافيزيقا والأنطولوجيا، ومن خلال الموسيقى نُدرك الشيء من زاوية نظر فيزيائية، لذلك علينا أن نسأل هنا : ما اللغة؟ اللغة عند تجريدها من كل حُكم قيمي تصبحُ أصواتًا، ومن ثم هي والموسيقى وصوت البلبل والكناري شيءٌ واحد، إلا أن معضلة تكمن عند رفع اللغة إلى الدال المثالي والدلالة المثالية عندها تتحجّر اللغة وتَصير صنمًا فوق تاريخي، ورفع الدلالة المتعالية عن اللغة يجعلها رَفيقة الموسيقى ومن ثم نفهم مشروع دريدا في تفكيك مركزية الصوت الذي يدافع عن حقه المطلق في ثبات المعنى إلى الكتابة اللقيطة بلغة أفلاطون ” لا أب يدافع عنها” بوصفه مشروعًا يجعل الموسيقى واللغة مترادفين، وهذا الأمر ألتقطه غادامير في كتابه الحقيقة والمنهج “.
على الرغم من أن الموسيقى المطلقة إنما هي حركة شكلية خالصة بحد ذاتها أي أنها نوع من الرياضيات السمعية حيث لا وجود لمضمون مرفق بمعنى موضوعي يمكننا أن نتبينه فإن فهمها مع ذلك يدخل في علاقة بما هو ذو معنى ولانهائية هذه العلاقة هي التي تسم مثل هذه العلاقة الخاصة بالموسيقى بالمعنى” إلا أنني أختلف مع غادامير في لفظ لانهائية إذ العلاقة دومًا نهائيًا عند النظر إلى تناهي الكائن، ومن ثم الموسيقى تُعدّ نقدًا جذريًا لكل مقولات الميتافيزيقا الوجود الجوهر العدم الصيرورة الخ وهذا النقد تحصّل عليه دريدا عندما حوّل اللغة إلى موسيقى أي أصواتٌ خالية من الدلالات المتعالية، وهذا الأمر ينعكس بدوره على تصورنا للحياة فما الحياة إذن عندما تنسحب هذه الأطر الميتافيزيقية؟ يقارب برغسون بين مفهومه للزمان والموسيقى إذ الديمومة لا تنقطع كما لو كنا نسمع سمفونية، ومن ثم هذه الحياة الباطنة للإنسان حيث كل شيء في حركة وديمومة، على أن برغسون يقفز كعادة الثيولوجين إلى ما أسميه موقف السرّ والذي يعني أنه عند إدراك حدود العقل نقفز إلى نتيجة أن هناك ما هو سرّي وغامض وله طابع القداسة يتجاوز العقل مثل هذا الموقف نجده عند الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال، ونجده عند طه عبدالرحمن في عصرنا هذا، وقد شدد لوكاتش على هذا الموقف في كتابه تحطيم العقل معتبرًا أنه هزيمة أمام الحياة، كما أنه موقف برجوازي يدعو للكسل بدل الخوض في صراع الطبقات، وعليه لا مبرر للقفز فوق حدود العقل لافتراض حدسًا ربانياً. الأمر أشبه بأن نقول هناك حدودٌ للطاولة إذن هناك ما هو فوق الطاولة وأكثر سموًا! بدل أن نعتمد على فيزياء نيوتن لنقد العقل المحض علينا أن نستلف من الموسيقى نقدًا لمركزية مفهوم الوجود وكذلك مركزية خطابات اللوغوس بعامة التي تُنتج مفاهيم من قبيل الوجود والعدم والصيرورة الخ يُعبر آلان واتس عن هذه الرؤية في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب ” تُعتبر الموسيقى مقاربتنا لما يُسميه بوهيم لغة حسيّة ذلك أنها بخلاف اللغة العادية لا تشير إلى ما يتعداها هي وعلى الرغم من أنها تملك عبارات وأنماطًا فهي لا تحوي جملًا تفصل الفاعل عن المفعول به ولا أقسام الكلام التي تفصل الأشياء عن الأحداث في حين تبدو الموسيقى والرياضيات البحتة مجردة للوهلة الأولى إلا أنهما أقرب للحياة مما هي اللغات التي تشير إلى معان تتعداها” من الطريف أن يتفق غادامير مع الان واتس في التشابه بين الموسيقى والرياضيات البحتة، وهنا علي أن أذكر بأن للرياضيات أصوليين أيضًا يريدون رفعها للمطلق، إلا أن الرياضيات ليست إلا لغة واللغة كما قلنا أصواتٌ بلا دلالات متعالية، لذلك في نظري لغة الرياضيات ليست جافّة كما يروّج عنها من بعد غاليلو بل هي غايةً في الجمال والرقة، وأخيرًا لا أريد حشر مفردة الحياة في تأويلي للموسيقى بل غاية هذه المقالة هي الاستعانة بالموسيقى كأداة نقدية ضد مقولات الوجود ومركزية اللوغوس، وضد اللغة المفاهيمية المتعالية، على أن نفهم أن الحياة لا تُعرف بل تُعاش.