مي الناهض
تفزعنا لحظات الفراق، أقصد بالفراق في هذه الورقة: “الفراق النزيه، فراق المترفعين عن الأذى، المفارقين بإحسان، وليس المفارقين الذين لا يتقبلون الفراق إلا بسحق الآخر، والتحطيم رهانهم. الحديث هنا عن المفارقين الذين يُطبطبون على أكتافنا إيذانًا بالرحيل” (مستغانمي،2019).
عندما تفارق لا بد من أن شيئًا معينًا من الانطباع الأول قد بقي كي أتذكره الآن، إن كانت الذكرى تعود فمعنى ذلك أني كنت قد فقدتها، وإن كانت تعود من جديد مع اعترافي بها، فهذا يعني أن صورتها ما زالت حية (بول ريكو،2009).
الذكرى المتكررة كما في مقالة “بهجة العزاء” هي سر ابتهاج المكلوم، والفقيد لم يُنس مع حركة المعزين، فذكراه متكررة في أذهانهم، وقصصه تُروى في صالات عزائهم؛ وهذا سر ابتهاج المكلوم، فماذا لو توقفت الحركة وصمتت وأصبح خبر وفاته يعبر عن ذكرى جديدة! )الناهض،(2024.
أهذا الفراق الذي يفزعنا أم الذي يفزعنا مسألة نسيانهم عندما تكون ذكرانا شيئاً جديداً؟
ما النسيان؟ هل هي حالة من الاستذكار كما قال أفلاطون؟ هل هي حالة من انقطاع في الذاكرة وتذكر من جديد؟ النسيان كما في المعجم اللغوي (المعاني) هو “فقدان الذاكرة وخلو البال منه” ولذلك نقول صار في طي النسيان أي تلاشى تذكره، بمعنى أنه قبل النسيان كان مخلدًا في الذاكرة، قبل أن ننسى شيئًا ما يجب أن نعرف ما هذا الشيء؛ بمعنى أنه من المستحيل نسيان شيء لم نعرفه ولم يكن ثابتا؛ إذاً، لا يأتي النسيان إلا بعد المعرفة التامة وثبوتها في الوعي ثم انسحابها خارجه، وهنا يكمن الارتباك الأخلاقي: هل نلوم من لم يملك السيطرة على ذاكرته؟ هل يُدانُ من نسِيَ لمجرد أن الذاكرة لم تستجب للاستدعاء.
وفي حال كانت المعرفة أقل، فلا لوم على نسيانك، فأنت تعول على معرفةٍ ضحلةٍ تُبرِّئُ ذمة النسيان،” ربما كنا ضحايا تعرّفٍ خاطئ، في الذكرى التي نحتفظ بها في قلبنا وكأنه أمر لا يتطرق إليه أيُّ شك؟ من منا يستطيع أن يدّعي أنه لم يثق يوماً بمثل هذا النوع الذاكرة؟ إن الأحداث السارة المؤسسة لوجود إنساني، ألا تعود كلها إلى هذه الثقة الأولى”؟ (بول ريكو،2009، ص623) أليس من الواجب ألا نراهن على هذا التعرف الذي نظن أنه يقين؟
إن المعرفة تمنح الشيء الوجود والحياة في ذاكرة العارف، والعكس ليس بصحيح، النسيان أيضا يمنحه حياة مختلفة عن حياته الأولى ومعرفة ومغامرة جديدة، بغض النظر عن انطباعاتنا عندما نفقد حياتنا الأولى قبل النسيان ، وكأن علاقة المعرفة في حالة تضايف مستمرة مع النسيان، فلا معرفة إلا والنسيان يرافقها، يتضح لنا بالمثال عندما نتحدث عن تعلم مهارة قيادة السيارة في البداية، فهناك استعداد للتعلم، وقبل ذلك رغبة في اكتساب المعرفة والتدريب، مع الوقت تتطور مهارتنا في القيادة حتى نصل إلى مرحلة ننسى معها قوانين القيادة، وننسى أيضًا حالة الخوف والهلع التي كانت تعيقنا.
نقود السيارة أحيانا لنصل إلى المكان المطلوب ونحن في حالة من النسيان، مسروقين من أنفسنا بلا وعي، بنية الاستيلاء علينا، ليلصق بنا هذا اللاوعي. فنقول لإنفسنا في نهاية الأمر: كيف وصلنا؟ ولا نقول: من أوصلنا؟ قيادة في النسيان!
في البداية حين نتأمل هذا الموقف، هناك رغبة “حين ترغب النفس في شيء معين، يصبح الجسم بأكمله أكثر خفة ورشاقة، وأكثر استعدادًا للتحرك مما هو عليه في العادة.” (ديكارت، 2019) هذا في موقف المعرفة.
أما عن موقف النسيان، فهو حضور بلا خارطة، معرفة غائبة. “غياب للرغبة التي تولدها البهجة أو حتى الرغبة التي يولدها النفور. لا أعني رغبة الخير والشر كأغراض لهاتين الرغبتين، ولكن انفعالات أنفسنا للبحث عن شيئين مختلفين”. (ديكارت، 2019)
في النسيان هناك غياب من الرغبة، حضوره يكون لحدثٍ لم تستطع الذات السيطرة عليه، مع أنه مستقر في دواخلنا، إلا أننا لا نمتلكه.
في مسألة الفراق على سبيل المثال، هناك من يظن أن الفراق موجب للنسيان، قد يحدث نعم، ولكن ليس على الإطلاق أن يتبعَ كلَّ فراقٍ نسيانٌ.
فالفراق حالة من حالات الحضور، يحمل طابعًا معرفيًا ومصارحةً قاسية، نشارك في هذا الحدث، نودّع، نُعلن الرحيل، فذواتنا شاهدة فيها على الابتعاد، مدركةٌ لما ترغب القيام به، كإدراكي لبعض الأعضاء الحسية، بأن أرى بعيني، وألمس بيدي. لكن النسيان لا يشبه الفراق؛ فإني لا أستطيع أن أقول بالطريقة عينها بحسب معنى الانتماء إني أفكر في دماغي، ولا أحركه بوصفه عضواً يخصني، إني لا أتملكه إلا كعضو ساكن في جمجمتي، لا قدرة لي عليه، فهو فعل يتم دون إعلان، دون توقيع، ودون إذن، فهو آخَر في داخلنا لا نستطيع أن نتكهن بما سيفعله. حين أنسى هل تغيّبت عن التزامي الإنساني؟ هل خنت؟ أم النسيان مثل النوم يأخذنا رغمًا عنا؟ ماذا لو أن لوم الناسي ضرب من الظلم الخفي؟
وللنسيان عدة أوجه، ولكن ما يعنيني الحديث عن أربعة أوجه من النسيان، الوجه الأول : أن يحضر الفراق قبل النسيان في حال حضرت لحظة الفراق قبل النسيان، يبقى الوعد الوحيد ألا ننساه، وكأننا نطمئن روح المفارق لنخفف من ألم الفراق، لنبعد عن ذهنه الفكرة المؤذية المسماة بالنسيان، وهذا ما يخشاه الكثير ليس في فعل الفراق نفسه، ولكن خشية أن نُمحى من الذاكرة بمرور الوقت، أن تتلاشى الأحداث،” لا يمكن ابتكار عقوبة أشد من النسيان أن تُنسى أسماؤنا، أن تتبدل ملامحنا، عندما لا يلاحظنا أحد، ولم يلتفت أحداً عندما ندخل مكانا، وإن لم يُجِبْنا عندما نتكلم، أو لم يعبأ أحد بما فعلنا، فسرعان ما يتصدع داخلنا نوع من الحنق واليأس العاجز”. (بول ريكو،2009).
لذا علينا البقاء في محاولة التمظهر في المشهد من خلال التفوه بكلمات وأشكال تعابير الوجه، نحاول بها أن تنتشلنا من الراهن، هذا الوعد الذي تملك القدرة عليه، ولكن الرهان على نفس الإحساس رهان خادع وأحاسيس لا قدرة لك عليها، وهذا ما قاله لنا نتشه في إنسان مفرط في إنسانيته: “طالما سأظل أحبك، سأقوم تجاهك بالأفعال التي تؤتَى عن حب وإذا ما انقطعت عن محبتك فستظل مع ذلك تتلقى نفس الأفعال، وبالتالي تظل مظاهر المحبة قائمة في ذهن الآخرين، كما لو أن المحبة ما تزال قائمة كما هي لم يطرأ عليها أي تغير، أن نعد باستمرار مظهر المحبة عندما نعد أحدا، دون خداع للنفس بمحبته إلى الأبد” .(,2014ص80)
الوجه الثاني: وهو من أشد الوجوه إيلاماً نسيانٌ بلا فِراق. الفِراق الطبيعي حتى وإن كان مؤلمًا، فإنه يمنحنا لحظة فاصلة، مشهدًا نهائيًا يسمح بترميم الداخل؛ لأن اللحظة التي كانت يجب أن تكون فاصلة بين “كُنا” و”لم نعد”، لم تحدث. وحين يغادرنا أحدُهم دون كلمة، دون مشهد وداع، نُحرَمُ من شرعية الحزن. كيف تحزن على شخص لم يُعلن رحيله؟ كيف تودّع من لم يقل “وداعًا”؟ كيف تتصالح مع ذكرى لم تُمنح لحظة نهاية؟ إنها تجربة أشبه ما تكون بفقدان شيء لم تعرف حتى متى فُقد، أو لماذا.
لكن… هل النسيان هو الجاني هنا؟
في الحقيقة هو أثر لاحق لانسحابٍ بشري لم يُعلن نفسه، لم يعترف، لم يشارك الآخر في وداعه. وفي الواقع، النسيان هنا ليس جريمة، بل دليل على الجرح الذي لم يُضمد. إنه المساحة الفارغة التي خلّفها الغياب غير المسؤول.
الوداع ليس مجاملة، بل واجبًا أخلاقيًّا يُقِرُّ بالآخَر، يُكرّمه في الرحيل كما في الحضور. يحدث أن نرى في الوداع شرفًا، وأن غيابه ليس قسوةً فحسْب، بل نكثًا صامتًا لعهدٍ إنساني غير مكتوب: أن نكون واضحين في الفقد، كما كنا حميمين في اللقاء.
وحين يُسلب هذا الاعتراف بالوداع، يُنزع حقُّ الآخَر في الوعي، في التفسير، في التمهّل أمام خسارته. وما يؤلم أكثر، أن هذا الفراق قد لا يُمنَح وصف “فراق”، لأنه بلا إطار، بلا لحظة، بلا حدث. وهنا تتراكم الأسئلة بلا أجوبة.
ما يؤلم إذًا ليس النسيان، بل أن نُغادر دون أثر، دون مساءلة، دون حتى فرصة للعتاب.
وفي كل هذا، يجب أن نُفرّق:
النسيان ليس هو الذي جحد، بل الجحود كان في مَنْ مضى دون أن يفتحَ الباب، وترك الذاكرة وحيدةً في مواجهة فراغها؛ فلا يتبقّى إلا صمتٌ معلَّق لا يصلح للحزن ولا يليق باللوم، فقط يتركنا أمام غيابٍ لم نُمنح شرف فهمه.
الوجه الثالث: أن يكون المرء شاهدًا على لحظةِ النسيان، كأن تتصل إحداهن بصديقةٍ لها بعد زمنٍ طويل من الانقطاع، فلما أرادت أن تنطق باسهما تحيرت بخجل شديد ولم تستطع أن تذكره، تصنع المعرفة، أرادت أن تنقذ الموقف فذكرت لها اسماً آخر؛ وهنا أيقنت الصديقة أنها في طي النسيان وأنها ذابت في الذاكرة. ومع محاولات إنعاش الذاكرة من خلال لحظة الصمت، والتهكم على الذاكرة تبدلت مشاعر الاشتياق إلى شيء لا معنى له. في أحايين كثيرة “نلجأ للسخرية مما حدث لنخفف من وطأته، أن تواسي هنا، أن تساعد الآخر أن يسخر، وهذا يعني فك رباط الحدث الوجودي وتحرر منه ولو للحظات” (المطيري،٢٠٢٤،ص٤٤) وحين انتهت المكالمة علت صرخة النسيان، انقطع وتر التواصل، لم تستأنف هذه الصديقة الاتصال مرة أخرى. لقد أدركت أنها لم تكن حية في ذاكرتها. بعد هذا الانقطاع كان ألمها لا يعول على الفراق، بل يعول على لحظة النسيان التي شاهدها معاً، واكتشفت عدم ثبات صورتها. وحين تداهمنا هذه اللحظات تحرجنا. نحاول أن نتوسل إلى ذاكرتنا لكنها لا تستجيب. لحظة خانقة. نحاول أن نبرر لها بالصمت، لأننا لا يمكننا ممارسة الإكراه أو فرض السيطرة عليها فنكتفي بالأسف، و”الأسف هنا أسف مواساة، حيث لا يوجد آخر ليعتذر، اعتذارًا بالنيابة؛ لأن الأمور سارت على ما هي عليه. ليس لي ذنب هنا إلا عجزي، ولكن ما أستطيعه هو أن أكونَ هنا قريبًا منك”. (المطيري،2024،ص٤٤) قدرة داخلية تقفزُ متى شاء لها، ظهور ذات أخرى مسيطرة، يستحيل أن نقف أمام سطوتها، عنيفةً أوقعت ذواتنا في حرج عرّانا أمام الآخَر.
في مشهد النسيان كان الألم عندما فقدت الاعتراف بها كذات منسية، في المقابل هي ما زالت معترفة بالذات الناسية وكأنها ذاتٌ أضلّت نفسها وهي تحاول التعرف على نفسها من جديد من خلال ذاتٍ مغايرة قد نُسيت من هي؟ وكأن الآخر مرايا لذواتنا نشاهد بها أنفسنا من خلال مرآتهم، إن أيَّ تصدعٍ أو تهشم أو نسيان في وعي الآخر في الحقيقة هو تهشمنا وضياعنا وفقداننا للحرية، كما أن وعينا بأنفسنا لا بد أن يمر من خلال اعتراف الآخر، وبدون هذا الاعتراف يكون الحرمان من هوية حقيقية؛ يقول هيجل: “إن الوعي بالذات قد ضل ذاته لأنه إنما يجد ذاته كأنها ماهية مغايرة”. (هيجل،2006،ص268)
إن الآخر ضروري للهوية، وبدون اعترافه بالأنا تصبح الأنا ممزقة، كل شخص يبحث عن اعتراف الآخرين به، فإن عدم الاعتراف يحرم الأنا من وجودها الاجتماعي، والهوية بدون مجتمع وبدون علاقات ليست هوية حقيقية.
والاعتراف عند هيجل في كتاب فيومنولوجيا الروح في جدلية الرئيس والعبد “يحصل الرئيس كونه معترفاً به من قبل وعي مغاير” الوعي يبحث عن نفسه داخل ذاتٍ أخرى، دون أن يفقد نفسه، فالغير أداة من أجل حياة أكمل؛ والأداة المقصودة عند هيجل كما وضحها بدوي: “هو الوعي بالمتقابلات من أجل التغلب عليها، وهذا الانتصار يرفع الروح وبالتالي يرفعها إلى الحرية”. (بدوي،2019)، وبذلك تنشأ علاقة التواصل. من جانب آخر تجد الذات نفسها في الآخر، وعند مشهد النسيان يعني موت أحد الطرفين، وبذلك يفقد فرصته في الحصول على الاعتراف. الألم هنا لا يأتي من الغياب، بل من التحوّل إلى شيء بلا حضور في الآخر. في هذه اللحظة تنهار هوية بأكملها، لأننا كما قال هيجل نحتاج إلى اعتراف الآخر بنا، لكي نوجد. فحين لا يعترف بك، لا تعود ترى نفسك في مرآة الآخر. وهذا الحرمان من الاعتراف ليس مجرد نسيان، بل هو انهيار وجودي.
وفقًا لمفهوم الاعتراف عند هيجل: “إذْ يفعل كل واحد للآخر كما يفعل الآخر له -هذا التجريد الخالص للكون- لذاته، تتمّة تكون بمعية فعله الخاص، ثم من جديد بمعية فعل الآخر” (هيجل،2006،ص271).
لا نستغرب أن اهتمام الآخرين مُهمٌّ لنا، فنحن بحكم طبيعتنا مبتلون بفقدان اليقين نحو قيمتنا الخاصة، ونتيجةً لهذه البلوى فإننا ندع تقييمات الآخر تلعب دوراً حاسِمًا في الطريقة التي نرى بها أنفسنا. إن إحساسَنا بالهوية أسير في قبضة أحكام من نعيش بينهم، فمزاجنا قد يسودّ لأن زميلًا حيَّانا وهو شارد الذهن. كما أن لدينا القدرة على الاعتقاد بأن الحياة تستحق أن تعاش، لأن شخصًا ما تذكر اسمنا، فربما نسقط في فخ مشاعر انعدام الثقة في النفس وانعدام القيمة.
الوجه الرابع: هل النسيان يعطل فعلا وظيفة الذاكرة؟ دعنا نتخيل أننا لا ننسى! كيف لنا أن نصل إلى خط النهاية، ونحن قد علقت في ذاكرتنا كل هذه الأحداث منذ أن وجدنا أنفسنا في هذا الوجود؟ سوف تتحول حياتنا مثل ألم ضرس يكدر صفو أوقاتنا. مَنْ منا لم يتعرض لفقد، لتلفٍ في الأموال أو الأبدان، لذكرى سيئة، لفقر، لحروب، لمجاعة؟ عندما نملك ذاكرةً مشبعة لا تنسى ألمًا ولا خيانةً ولا موتاً؛ ألا يتحول هذا إلى عذاب دائم؟ ألا يكون النسيان ضرورة نفسية وأخلاقية للعيش؟ وعلى مستوى الجماعة ما الذي سوف يكون عليه “كوكب اليابان” لو لم يستطع نسيان قنبلة هيروشيما؟ في نسياننا دعوة للتجدد للفرح، لحياةٍ أخرى أتت لم نخطط لها. النسيان ليس إذن عدو الذاكرة من كل النواحي، هنا يتحول النسيان إلى قيمة في ذاته، لا بوصفه فقدًا، بل بوصفه شرطًا للسلام.
من المستحيل أن نستمر في الحياة دون نسيان؛ لأننا تخيلنا حياتنا كما تخيلها نتشه “إنسان محروم كُليًّا من ملكة النسيان، شخص أُجبر على البقاء مستيقظاً، أو حيوان حُكم عليه باجترار العلف وإعادة اجتراره نفسه للبقاء حيًّا… أليس من الممكن أن هذه الذكرى تنتهي بالقضاء عليه، سواء تعلق بإنسان أو بشعب أو ثقافة، حيث يتوجب نسيان الماضي حتى لا يتحول الإنسان إلى حفار قبر الحاضر ” (2019،ص15).
أخيراً: علينا ألا ننسى أن لعبة المعرفة تحمل في داخلها مغامرة النسيان والتذكر، وحين أقوم بفعل التذكر -على الرغم من وجود رغبة في النسيان لأشخاص تسببوا لنا في الألم- يصبح من المستحيل نسيانهم. ما نظن أنه يستحيل نسيانه قد يُنسَى في اللحظة الراهنة، وما نعتقد أننا نملك المقدرة على نسيانه قد يصاحبنا إلى الأبد.
العجيب ما الذي يدفعنا للحكم على صفة التذكر بالوفاء مع الشعور بالامتنان، وفي النسيان نَصِفُها بالخيانة ونشعر بالغدر! على الرغم من أن كلتا الصفتين ليست بإرادتنا؟
الإرادة الحرة تُعدّ نوعاً من التحكم، بوصفها قدرة على التحكم عبر اختيار بأن يبقى بالذاكرة أو ينسى، هل الشخص الناسي يملك إرادةً تجاه فعل النسيان، فبالتالي هل سيكون اللوم مناسبًا في عالم تسوده الجبرية؟ فهناك تهديدات عامة أقل للحرية، كالإكراه أو الضغوط، بقدر ما تسلب عوامل كهذه منا حريتنا بقدر ما نكون غير مستحقين للوم.
دعونا نفهم ما هو اللوم أولاً؟ لنفهم من خلاله ما المبرر الإخلاقي الذي يدفعنا في لوم الإنسان الناسي.
يقول مايكل ماكينا: “اللوم ذو طبيعية حوارية، يعمل اللوم على استمرار المحادثة التي بدأت بسبب التعرف الخاطئ من قبل الفرد الملام”. ويتفق معه أنتوني داف بأن “اللوم عبارة عن محاولة إبلاغ مرتكب الخطأ بالفهم الأخلاقي لفعله الخاطئ ولحمله على الإقرار بذنبه، والندم على فعلته”. (تونازيني،كوتس،2022)
وهذا ما يتفق مع الوقيان بأن “اللوم هو نوع من استجلاب الاعتراف وصراع التأويلات وشعور بالخجل بالاعتراف الحقيقي بالخطأ. القيمة الأخلاقية تكمن بالخجل، وهو نوع من الانفعال اللازم للوم” (2020).
“وفي النظرية الإدراكية عند j.j.c.smart اللوم يحمل دلالة ضمنية بأن الفرد الملام مسؤول عن فعله أو طبعه، وبذلك فاللوم إذًا حكم تقييمي سلبي يقتضي المسؤولية” (تونازيني،كوتس2022,).
ما المبرر الأخلاقي الذي يدفعني إلى لوم الإنسان الناسي عندما يكون الخطأ غير متعمد، فإن اللوم قد يكون غير عادل أو بالأصح لا معنى له. اللوم يفترض الوعي، والمسؤولية، والنية؛ وهي شروط لا تتوافر في لحظة النسيان غالبا. فحين ينسى أحدهم اسمك، أو تاريخاً جمعكما، أو وعداً قطعه لك، فهل يكون قد خانك، أم فقط خانه دماغه؟
انطلاقاً من فكرة كانت أن تصبح مسلّمتي قانوناً كلياً، لِنَتَسَاءَلْ: عندما أصبح أنا الشخص الناسي العاجز، هل من العدل أن أتلقى لوماً يشعرني بحرج وخجل لتقديم أعذار في مشاهد النسيان؟ وهل اللوم هنا لا يقف خلفه أي باعث؟ فإن قلت نعم، يستحق كل من نسي أن يتلقى كل هذا اللوم بسبب فعل النسيان. وإن وُجد مثل هذا القانون، فالأكيد أن التمظهرات تبقى في عدم النسيان، لأنه من المستحيل عدم النسيان، إذْ هو فعل يتناقض مع طبيعة العقل البشري، كما أنه إذا كان هناك باعث خلف هذا اللوم، فإن فعل اللوم لا يقوم على قيمة أخلاقية.
فإن أصبحت الإجابة لا، لا يستحق اللوم، وفعل النسيان ليس بإرادته، والعمل على مبدأ الإحسان: أن أحسن للناسي لا عن ميل وعاطفة، بل عن شعور بالواجب. هنا تكمن القيمة الأخلاقية، كما ذكر لنا كانت افتراضاً “أن صديقاً من بني الإنسان نُزعت منه الهموم الذاتية التي تقضي على كل مشاركة وجدانية في قدرات الآخرين، وأنه لا يزال قادراً على تقديم الخير لغيره من المعذبين. وأنه على هذه الحال التي لا يؤثر عليه ميل، وأن يؤدي الفعل عن شعور بالواجب، مجرداً من كل ميل، عندئذ فقط تكون لهذا الفعل قيمته الأخلاقية الأصيلة” (كانت،2020،ص33).
ومن هذا المنطلق، ليكن الرهان على الإرادة الخيرة وحدها، هي ما يجعل الفعل أخلاقياً. فإذا كنت لا أملك إرادتي في النسيان، فإن محاسبتي تفقد معناها الأخلاقي؛ بل يصبح اللوم في غير موضعه، لأنه يُمارس على من يملك فعله. وعلى العكس فإن الرحمة تجاه الناسي ليست ضعفاً، بل سموًّا أخلاقيًّا نابعًا من الواجب لا من الميل، ولا تكون الخيرية بما تحدثه من أثر أو شعور بالامتنان أننا ما زلنا عالقين في الذاكرة، أو بما تحرزه من نجاح وبلوغ غاية؛ بل إنما تكون خيرة عن طريق فعل الإرادة وحده. أعني أنها خيرية في ذاتها (كانت،2020) أن تحسن إلى الناسي، لا لأنك ما زلت تتذكره، بل لأن في داخلك شعوراً بالواجب نحو الإنسان بوصفه كائناً ضعيفًا، زائلا، مأخوذًا بعنف الحياة والنسيان، هذه العدالة تستمد قوتها القيمية من الفهم العميق لمحدودية الإنسان.
الخاتمة
عند النسيان لا تحضر الكلمة، وإن حضرت فهي مراوغة، لا تعقدُ ميثاقًا هي في الأصل لا تمتلكه، في النسيان لا يجب أن نعتب على الناسي وألا نلصق به صفة انعدام الوفاء، فالمسألة ليست بإرادته؛ لكيلا تتحول القضية في ذاكرتنا إلى قضية غدر أو خيانة. السؤال هنا: إذا كان النسيان يسبب لنا كل هذا الألم والإحباط، أفليس من المفترض أن نجوّد لحظاتنا، وأن نتعلم كيفية التعايش معه بدلاً من إلباسه ثوب الجحود، ومقاومته من خلال الانفتاح على الآخر لعيش حياة أكثر عمقًا وثراءً، لنفهم أن هناك في دواخله ما لا يملك السيطرة عليه، ففي علاقتنا بالنسيان تتجلى أعظم أخلاقياتنا: الصفح دون ضعف، والاعتراف دون مطالبة، والإحسان دون انتظار. في النهاية لا يعرّينا النسيان فقط، بل يكشف عن مدى حاجتنا إلى عواطف الآخرين؛ لأننا نبقى “مدينين لعواطف الآخرين التي لولاها لعجزنا عن تحمل أنفسنا” (بول ريكو،2009).
المـــــــراجـــــــــع
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%86%D8%B3%D9%8A/?
https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%88%D9%85/