تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
في كل مرة أحمِّل نفسي المسؤولية، فإنني آخذ جزء صغير من ذاتي من بين يدي الآخرين وأعيده تحت سيطرتي
لا أفكر في القوة إلا حين أفتقر إليها.
كانت المرة الأولى التي فكرت فيها في القوة عندما كنت في منتصف سن المراهقة، في حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمري. كنت أعيش آنذاك في ريف أريزونا، وقبلها بسنتين كانت أمي تعلِّمني في المنزل، لكن عندما عادت إلى العمل لم أستطع الالتحاق بمدرسة عامة واضطررت للبحث عن عمل خاص بي.
كنت فقيرة ، وغير متعلمة، ومُحبَطة؛ فكنت أستغرق في أحلام اليقظة فيما كنت لأفعله لو كنت أملك القوة، وماذا لو كان العالم يمكن أن يُطوى ويتشكَّل بأمرٍ مني.
تخيلت في أغلب أحلام اليقظة لدي أنني مثل سائر الأطفال من أقراني، فقد أردت الذهاب إلى المدرسة وأداء واجباتي المنزلية وتعلم أمور جديدة. أردت أن يكون لدي ملابس أنيقة وجميلة، وأردت أن ألتقي بأناس جُدُد وأن يكون لدي حبيب.
حينما حلمت بالمستقبل، كنت أحلم بأنني حصلت على التعليم. وفي أكثر تخيلاتي جموحًا كنت طالبة في جامعة ييل، أو هارفارد، أو أكسفورد. حلمت أنني لم أعد أعيش في الفقر وأنني لن أضطر للعمل كمربية؛ بل سأمضي أيامي، عوضًا عن ذلك، أخترع وأصمم أشياء خارقة، أشياء لم يراها العالم من قبل.
لم تتضمن خيالاتي مطلقًا أن أتحكم بأي شخص آخر، فقد كانت القوة بالنسبة لي هي القوة للسيطرة على نفسي، أي القدرة على أن أواصل شغفي أينما يقودني، وأن أتحكم في حياتي واتجاهها. لما تقدمت بي سنوات المراهقة دون الحصول على تعليم ثانوي، أدركت أن هذه القوة هي أمر يتعين علي أن أحارب لأجله.
عندما قررت التقدم للالتحاق بالجامعة، اضطررت للكفاح بقوة كي يأخذني الناس على محمل الجد، كنت أعرف أنني أبدو سخيفة وأنا أحمل السجل الأكاديمي “دراسة سوزان فاولر المنزلية”، الذي وضعت فيه قائمة بكل الأشياء التي قرأتها وتعلمتها بنفسي. لكني لم أهتم بذلك، ففي النهاية أخذني الناس على محمل الجد: وقُبِلت في جامعة ولاية أريزونا والتحقت هناك في قسم الفلسفة بعمر ثمانية عشر عامًا.
ذات مرة في جامعة ولاية أريزونا نمّيت اهتمامي بالعلوم، لكن لم يُسمح لي بدراسة منهجيْن دراسييْن تمهيدييْن في الرياضيات والفيزياء لافتقاري إلى الخلفية العلمية العادية للمدرسة الثانوية؛ لهذا انتقلت إلى جامعة بنسلفانيا، وحتى هناك واجه اهتمامي بالفيزياء بعض المقاومة الشديدة، فاضطررت للكفاح حتى النهاية إلى رئيس جامعة بنسلفانيا قبل أن يُؤذن لي بدراسة ما أرغبه. وتخرجت بعد سنوات قليلة مع شهادة في الفيزياء.
ومع ذلك لم تنتهِ معركتي مع القوة الشخصية.
فبعد سنوات لاحقة، وأثناء عملي كمهندسة برمجيات في شركة أوبر، تعرضت للتنمر والتحرش والتمييز (وهي تجربة سأوثقها لاحقًا في مدونة عنوانها ” تأمل في سنة غريبة جدًا داخل أوبر”) وشاهدت أن زملائي في العمل قد تعرضوا لما يماثل ذلك من سوء المعاملة.
كنت غاضبة حيال ما جرى، وبدأ ذلك الإحباط يتسرب إلى جوانب أخرى من حياتي. كنت قد اعتدت كثيرًا على التعرض للهجوم اللفظي في العمل لدرجة صرت فيها ذات أسلوب دفاعي أثناء محادثتي مع أصدقائي وعائلتي. واعتدت على أن يُقال لي أن ما يحدث معي لم يكن حقيقيًا، فأصبحت أخاف بشدة ألا يصدق أحد شيئًا مما أقوله. كان يبدو أن عملي، ومسيرتي المهنية، وشعوري بالقيمة الذاتية أمورًا مرتبطة بأهواء عدد قليل من المدراء المتوسطين وبعض التنفيذيين بالشركة ممن لم يدركوا خطورة أفعالهم.
كنت كلما أشاهد نفسي في المرآة صباحًا، أرى شابة تشعر بالمرارة؛ شابة غاضبة وخائفة وذات أسلوب دفاعي. لاحظت نفسي وقد تجلت فيها بعض أسوأ صفات من آذاها، وبطريقةٍ ما، وبقبول قوتهم علي، بدأت أخلق نسخة جديدة من نفسي؛ نسخة مشابهة لما كانوا عليه.
كنت أتمسك بشكلٍ يائس ببعض السيطرة الضئيلة على حياتي، وفعلت ما تعلمت أن أفعله عبر سنوات: انطويت على داخلي وسكبت ما عثرت عليه فوق الورق. ألهمني بنجامين فرانكلين، الذي تتبع منهجيًا تطويره الشخصي لثلاثة عشر فضيلة (تتضمن الإخلاص والعدالة والتواضع). كنت أجلس كل يوم وأسأل نفسي هل كنت طيبة، وهل كنت صادقة، وهل كنت لطيفة، وهل كنت رحيمة؟ وكنت أرسب في كل مرة تقريبًا.
لكن حدث شيئًا مميزًا أثناء هذه اللحظات من التأمل الذاتي. ففي كل مرة حمّلت نفسي مسؤولية أن أكون رحيمة، أو بطيئة الغضب، أو أكثر كرمًا، استطعت أن أُخرج جزء صغير من نفسي من سلطة الآخرين وأعيده تحت تحكمي.
تعلمت حينئذٍ أنني حتى لو شعرت بالعجز في التحكم في مهنتي أو تعليمي أو أي شيء آخر يبدو أنه خارج سيطرتي، فإنني على الدوام أملك التحكم بعقلي وكيفية التعامل مع الآخرين. وحتى عندما كنت لا أملك شيئًا آخر، كان لا يزال بمقدوري أن أكون لطيفة، ومنصفة، وكريمة، وصادقة، وودودة، ورحيمة.
اكتشفت منذئذٍ أن هذه هي القوة الحقيقية. فأنا أعلم أن الحرية والاستقلالية اللتين أملكهما اليوم هما نتاج سنوات من العمل المتروي والمتعمد، إنه العمل على نفسي في أعمق أركان ذاتي، العمل على شخصيتي.
كنت أمضي يوميًا بضعة دقائق على مكتبي وأنا أفكر فيمن أكون وفي الكيفية التي يمكنني أن أتحسن بها. أفكر في الأخطاء التي ارتكبتها وأحاول بجدية أن أتعلم منها؛ أفكر في الأمور الصحيحة التي فعلتها وأحاول العثور على طرق لفعلها بطريقة أفضل؛ أفكر في الشخص الذي أرغب أن أكونه – كاتبة جيدة، وأم جيدة، وزوجة جيدة وصديقة أفضل -وكيف سأعمل بجد كي أكون ذلك الشخص.
إن كل معيار التزمت به لهو معيار من صنعي الخاص، معيار يقع تحت سيطرتي بالكامل. إذ لا تعتمد قيمتي الشخصية على أي شخصٍ آخر، وحتى لو تداعى العالم اليوم، فإن شعوري بمَن أكون وبمكاني في هذا العالم لن يتزعزعا.
في هذه الأيام، نادرًا ما تخطر القوة بذهني.
الكاتبة: سوزان فاولر محررة في قسم مقالات الرأي في جريدة النيويورك تايمز ومؤلفة المذكرات المقبلة “الواشي.”
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
Before I Could Change the World, I Had to Change Myself
Susan Fowler
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”