ترجمة: عبدالله المطيري
مراجعة: شيخة اليلك
استمعت البارحة للاحتفال الجماعي في بيت لحم في حضرة ياسر عرفات وهو الاحتفال الذي قد لامس بعض المسيحيين والمسلمين. وبعد ذلك بعدة ساعات وصلتني أخبار وفاة صديقي المبجّل الفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس. مصادفة متنافرة. وللتخفيف من الصدمة بحثت في مكتبتي عن كتاب صغير له بعنوان الله والموت والزمن.
يحتوي هذا الكتاب على محاضرة بعنوان “الموت والزمن” وهي المحاضرة الأخيرة التي قدمها ليفيناس في السوربون عام ١٩٧٥-١٩٧٦ وقد أتبعها بمحاضرة موازية بعنوان “الله والأنطوثيولوجيا Onto-Theology”. لن أتحدث هنا عن ليفيناس الميّت ولكنني سأتحدث عن حديث ليفيناس عن الموت.
تتضمن محاضرة “الموت والزمن” مواجهة مع هايدجر وأطروحته المشهورة عن “الوجود-باتجاه-الموت”. بحسب ليفيناس فإن هايدجر يفكّر في الزمن انطلاقا من الموت ويفكّر في الموت انطلاقا من قلق العدم ونهاية الكائن المتناهي. يقترح ليفيناس في المقابل عكس هذا كله ويفكّر في الموت انطلاقا من الزمن. ثمن هذا الأمر سيكون باهضاً فهو يعني التخلّي عن فكرة الكينونة وهو ما يترتب عليه كذلك التخلي عن فكرة العدم. ولكن ومن أجل القيام بهذه المهمة التي تظهر استحالتها فإنه من المهم في البداية رفضُ نقطة البداية الهايدجرية أي فكرة قلق مواجهة موتي والانطلاق بشكل حازم من مواجهةِ موتِ الإنسان الآخر. المغامرة كبيرة هنا: ما سوى العدم، لتكرار صدى عنوان كتاب ليفيناس الأعظم ما سوى الوجود أو ما وراء الجوهر (١٩٧٤).
“قيد” الزمن و”الصبر”
يكمن صراع طويل مع المعضلة الأنطولوجية عن الوجود والعدم خلف كل ما يطرح ليفيناس. يجب استبعاد كل من الزمن والموت من هذه المعضلة. هذا لا يعني أنه لا يوجد أية مشترك بين ليفيناس وهايدجر فكل منهما لا يتعاطى مع المعرفة الثانوية المتعلقة بالموت—الموت باعتباره عدم الاستجابة وباعتباره وداعاً وباعتباره مصيبة.
تتحقق القطيعة مع هايدجر في لحظة تسمية ما يُعدّ الخبرة الأكثر أصالة: القلق في مواجهة الموت. بالنسبة لليفيناس فإن هذا يعني إعطاء دور أكبر من اللازم للقصدية ولقصد المعنى والمتوجّ للعدم كذلك. اتصالي الأول بالموت هو انفعالي وتأثري بموت الآخر، ذلك الآخر الذي أسرّ لي. وفي المقابل فإن هذا الانفعال يَفترِض خبرة بالزمن ليست مدينة بشيء للموت وهو ما سيكون مؤشرا على محدوديتها.
هذه الخبرة المؤسِّسَة هي خبرة قيد الزمن، “تقييد” الزمن الذي يجب عليّ أن أتحمّله في نمط من الوجود السلبي لا مثيل له يسميه ليفيناس بالصبر. هذا الصبر لا يهدف لشيء فهو بلا قصديّة. بإمكاننا أن ننوي أمورا داخل الزمن ولكن ليس بإمكاننا أن ننوي الزمن ذاته فاستمرار الزمن خارج عن قصديّتنا. وبالتالي فإن الصبر لا يحتوي على أي شيء يشبه الترقّب ومن باب أولى فإنه لا يحتوي أي شيء يشبه ترقّب العدم.
سنسأل أدناه عن وجود أمر ما أكثر رعبا وإفزاعا من العدم ولكننا لن نبدأ بهذا السؤال ولكن سنبدأ بالتأثّر الذي يأتي مع موت الآخر. هذا التأثّر لا يحتوي على أيّة قلق أوّلي بما في ذلك القلق الأكثر أصالة. بدلا عن ذلك فإن ذلك التأثّر يُعيد إيقاظ ارتباطي بالمسؤولية، المجروحة الآن، علاقة أخلاقيّة بامتياز.
“يفتح الموت على وجه الآخر”
علاوة على ذلك فإن هذه العلاقة إيجابية في كل تفاصيلها. مصدر السلبية يجب البحث عنه في مكان آخر. يقترح ليفيناس أن “السمة السلبيّة للموت منقوشة في الكراهية أو في الرغبة في القتل. نفكّر في سلبية الموت في العلاقة مع الآخر.” ماذا يمكن أن أخشى أكثر من أن أقتل؟ قال ليفيناس بوضوح في المحاضرة الأخيرة: “يفتح الموت على وجه الآخر، وهذه هو الأمر الكامن في هذه الوصيّة: لا تقتل. دعونا نحاول البدء من القتل باعتباره يقدم لنا الحسَّ الأكمل للموت.”
المقاربة الأخلاقية الخالصة لا يمكنها إلا أن تواجه عنف الموت حين يوقعه إنسان على إنسان آخر. هل لا يزال من المسموح العودة من موت الإنسان الآخر إلى موتي، إلى موتي أنا؟ هنا تقترب همهمات ليفيناس من حدود الصمت. يتحدث ليفيناس عن “انفعالات بلا تمثّلات” كما عند ميشيل هنري Michel Henry “تأثّر بلا تمثّل” لـ “عدم الارتياح مع المجهول”، ولـ “شعور ما يشبه الاختلاف أمام الموت.” هل ما يزال هناك ما يمكن التفكير فيه هنا؟ ماذا يمكننا أن نقول عن “انفعال يشبه سؤالاً لا يشمل، في سؤاليته ذاتها، عناصر استجابة ما”؟
حقيقة لا يوجد الكثير مما يمكن العثور عليه أو حتى البحث عنه في هذا الاتجاه. وهذا إلى حدٍ بعيد لسبب رئيسي مرتبط بطبيعة ديمومة الزمن والتي يرى ليفيناس أنها مرتبطة باللامتناهي بالمعنى الديكارتي وهو ما تمت الإحالة عليه مبكرا في كتاب الشمولية واللاتناهي. إنه اللامتناهي الموجب كليّا الذي نفكّر به قبل أن نفكّر في المتناهي الذي يحدّه. وهذا عند ليفيناس كذلك يعني أن اللامتناهي يتجاوز كل ما هو في داخله، تجاوز الحاوية لما تحوي، ما لا يُحتوى.
ونتيجة لذلك وحين يوضع مرة أخرى في مقابل ديمومة الزمن وفي العلاقة مع اللامتناهي فإن الموت لا يستطيع أن يعلن عن نفسه إلا باعتباره فضيحة وأزمة. حدٌّ مهم تم الوصول له هنا: ما يجب علينا ألّا نفعل هو أن نسمح للصبر أن يسقط مرة أخر في هذا الانفصال: الوجود/عدم الوجود. يجب علينا بلا انقطاع الترجع عن قول هذا البديل، أن نتعاطى مرة أخرى مع الفكرة الأساسية المعروفة جدا “القول – عدم القول” من كتاب ليفيناس ما سوى الوجود.
لماذا هذا التحفّظ، هذا التكتّم؟ لأن الانتقال من موت الآخر إلى موتي يتم تأجيله باستمرار نتيجة لفقدان الدعم من خلال التبصّر والتوقّع. يمكننا فقط أن نتشبّث بصبرنا الأكثر سلبيّة من السلبية ذاتها. لكي ننقش بفعالية خطر اللغو وفقدان المعنى في صبرنا فإن هذا يعني بشكل مباشر سحبا لسلبيته من صبرنا. وبالتالي فإن ما يبقى قابلا للتفكير هناك على الجانب في التحليل الأخير هو خضوعنا أمام موت الآخر، وإحالة الزمن على اللاتناهي، وهو ما يبقى المختلف والقياس الذي لا يمكن قياسه.
ما لأكثر رعبا من العدم؟
ربما إذن، وبغض النظر عما كان يمكن أن يقوله ليفيناس فإن هناك طريق ما تقود من الزمن إلى الموت، كما يمكن أن تكون هناك طريق بالنسبة لهايدجر تقود من الموت إلى الزمن.
ليس في وسعنا إلا أن نكرر “الموت مربك في ارباكه وليس في المشكلة التي يفرضها”. وعندها إذن نعود للسؤال الذي تركناه معلّقا حول هل وجود ما هو أكثر رعبا من العدم: نعم، “يقفز المرعب خارجا على شكل التفاوت بيني وبين اللامتناهي—كـ وجود-أمام-الله، كـ في أمان الله نفسها.”
لقد تم النطق بكلمة الله. كل شيء يبدأ من جديد منها في السينمار الثاني ١٩٧٥-١٩٧٦. ولكن لا إجابة سهلة مضمونة هنا ما دام علينا أن نفكر في الله بلا كينونة وبالتالي خارج كل أنطوثيولوجيا والتي كان خطأها على مر الألفيّة أنها تعاطت مع الله على أنه موجود تم الخلط بينه وبين الكينونة.
كنا بالفعل قد قرأنا في ما سوى الوجود: “ولكن أن تستمع لإله غير ملوّث بالكينونة فهذه إمكانية بشرية لا تقل أهمية ولا تقل خطورة عن استخلاص الكينونة من النسيان حيث قيل أنها سقطت في الميتافيزيقا والأنطوثيولوجيا”. طريق الأنطوثيولوجيا مغلقة وهنا تفرض الطريق الأخلاقية نفسها. في هذا الصدد فإن أفضل جزء من هذا السيمنار هو ربما ذلك القسم الذي يتعاطى مع الثيمة العظيمة للشهادة testimony والتي احتفت في وقت الشمولية واللاتناهي ببهاء اللامتناهي في تجلّي الوجه.
وبالعودة إلى السيمنار الأول من هذين السيمنارين، بعد قراءة الثاني، فإنه بإمكاننا أن نسأل ليس فقط عن نجاح ليفيناس في التفكير في الموت انطلاقا من الزمن ولكن عن كون السؤال الملحّ والذي فرض نفسه عليه بسبب المواجهة المُستنزِفة مع هايدجر فعلا محل اهتمام حقيقي بالنسبة له. هذا السؤال مُشكل ولكنه مشروع. إذا كان ليفيناس فعلا ليس بالمفكّر الذي اعتني بالاهتمام أو بالقلق، ولكنه مفكّر بالمسؤولية التي تحفّز خوفا واحدا جوهريا لديه وهو الخوف من قتل الآخر أو السماح بذلك.