٢٠ فبراير ٢٠١٨
قبل خمسة وسبعين عامًا، انضمت الفيلسوفة والصوفية الفرنسية سيمون فايل إلى حركة شارل ديغول الفرنسية الحرة في لندن. ولا نعرف ما إذا كان الجنرال الكاثوليكي المحافظ، التي لم تقابل فايل قط، قد علم أنها تركت منصبها كأستاذة في الفلسفة من أجل العمل في خطوط التجميع، وتركت عائلتها للمحاربة إلى جانب الأناركيين في إسبانيا، وتركت بلدها هرباً من نظام فيشي المعادي للسامية. كل ما نعرفه هو أن ديغول قرأ خطة فايل المتمثلة في إنزال الممرضات ذوات الزي الأبيض بالمظلات في ساحات القتال، وهنَّ مسلحات فقط بواجب إنقاذ الجرحى والتضحية بأرواحهن. وضع ديغول الورقة أمامه وقال: “لكنها مجنونة!”
لقد كان ديغول على حق فيما يتعلق بالخطة، ولكنه لم يكن كذلك فيما يتعلق بصاحبتها. والحق أن تأملات فايل حول طبيعة الالتزام تعطي جرعة داعمة للتعقل في أوقاتنا المحيرة والاستقطابية. توفيت فايل في صيف عام 1943 وخلال الأشهر الأخيرة من حياتها كتبت العديد من نصوصها الأكثر قوة وتأثيراً. (كونها في الأساس أوراق تعبر عن موقف حركة الفرنسيين الأحرار يجعلها أكثر استثنائية). وينطبق هذا بشكل خاص على أعمالها: “الشخصية الإنسانية” و”مسودة بيان الالتزامات الإنسانية”، وكلاهما مكرّس للتمييز الذي تصر فايل عليه لإبراز الحقوق الشخصية والواجبات العامة.
عندما نتحدث عن العدالة اليوم، نجد أنفسنا دائماً نتحدث عن الحقوق التي نعتقد أنها راسخة في الطبيعة، وجرى تكريسها في وثائقنا التأسيسية. تعكس هذه اللغة مفهوماً ليبرالياً للفعل والتفاعل الإنساني، وتصورنا على هذا النحو كوكلاء عقلانيين يتوصلون إلى اتفاقات مع بعضهم البعض من خلال العمليات الحسابية والتفاوض.
علاوة على ذلك، وكما زعم الفيلسوف تشارلز تايلور، في حين أن كل واحد منا “لديه تصور عن الحياة الطيبة أو الجديرة بالاهتمام”، فإن لا أحد منا يقبل “مفهوماً معتمداً اجتماعياً للخير”. في جوهر الأمر، لقد تنازل المثل الأعلى للحق عن حقه لصالح المثل الأعلى للحقوق.
المشكلة، بالنسبة لفايل، في المفهوم الليبرالي للحقوق – والقوانين التي تضعها – هي أنها متجذرة في الأمور الشخصية، وليس العامة. وتصر على أن مجتمعنا هو مجتمع ترتبط فيه الحقوق الشخصية بالملكية الخاصة. واقتداءً بفايل، يقترح المنظر السياسي إدوارد أندرو أن المجتمع القائم على الحقوق «هو المجتمع التوافقي حيث يكون كل شيء قابلاً للبيع في الاتفاقيات الدستورية أو السوق». وهذا يكشف ما تؤمن به فايل، مثل توماس هوبز، على أنه الحقيقة الكونية الوحيدة فيما يتعلق بالشؤون الإنسانية: أن هناك مجموعات معينة ستتمتع دائماً بنفوذ أكبر من المجموعات الأخرى. “حديث الحقوق” يتناول النسبي والقابل للتصرف، وليس المطلق والثابت. بالنسبة إلى فايل، فإن النكتة القديمة حول نظامنا القانوني هي “ما مقدار العدالة التي يمكنك تحملها؟” – تصبح فورية مأساوية.
علاوة على ذلك، فإن التركيز على “حقوق الإنسان الثابتة” – وهي عبارة تعلن فايل أن التاريخ أثبت أن لا معنى لها – تعمينا عن الخير الحقيقي الوحيد، وهو الخير المتجذر فيما تسميه فايل “الغير شخصي”. ومن المفارقة أن هذا المصطلح يصف ما هو الأكثر أهمية بالنسبة لحياتنا المكونة من لحم ودم: الاحتياجات المشتركة بين جميع البشر والواجبات (وليس الحقوق) تجاه بعضهم البعض، والتي تنطوي عليها علاقاتهم.
تشمل الاحتياجات المدرجة في “مسودة بيان الالتزامات الإنسانية”، التغذية والملبس والرعاية الطبية والسكن، فضلاً عن الحماية ضد العنف. (وعلى الرغم من معارضتها لعقوبة الإعدام، فقد وضعتْ استثناءً لعقوبة الاغتصاب).
بموهبتها في ضرب الأمثلة التوضيحية المذهلة، تواجهنا فايل بحدود المطالبات بالحقوق. “إذا حاول شخص ما أن يرهب مزارعاً ليبيع بيضه بسعر معتدل، يمكن للمزارع أن يقول: “لدي الحق في الاحتفاظ ببيضي إذا لم أحصل على سعر جيد بما فيه الكفاية”. أما في حالة الفتاة الصغيرة التي تُجبر على العمل في بيت للدعارة، فليس لها أن تتحدث عن حقوقها. في مثل هذه الحالة، قد تبدو كلمة “الحقوق” سخيفة للغاية.
ولهذا السبب، عندما نسأل لماذا نملك أقل من الآخرين؟ فإننا نكون قد شخصنّا الأمور، أما عندما نسأل لماذا نتعرض للأذى، فإن قضيتنا هنا ليست شخصية. وبالنسبة لفايل، فإن اللا شخصنة أمر جيد بكل معنى الكلمة. وفي حالة المثال الذي ضربته، تجد فايل فكرة الحقوق مثيرة للسخرية لأن الفتاة لا تتعرض لتقليص ربحها، بل تتعرض لسرقة إنسانيتها، ولا يوجد تعويض حقيقي عن مثل هذه الأفعال. ومع ذلك، فمن خلال الخلط بين الحقوق الشخصية مع غير الشخصية (أو الاحتياجات المشتركة عالمياً)، فإننا نثقل أنفسنا بلغة تصرفنا عما هو على المحك حقا. وكما تقول فايل: “هناك شيء مقدس في كل إنسان، لكنه ليس شخصه. إنه هذا الإنسان؛ لا أقل ولا أكثر”.
ورغم أن فايل كانت تكتب استجابة لأزمة الديمقراطيات الغربية التي كانت تواجه تحدي الفاشية، إلا أن مقالاتها يمكن أن تساعدنا أيضاً في التفكير في أزمتنا الخاصة المتعلقة بالحكم السياسي وقضايا الشرعية.
لنأخذ على سبيل المثال الجدل الحالي حول اقتراح إدارة ترامب بخفض تمويل برنامج المساعدة الغذائية التكميلية، المعروف باسم SNAP، أو قسائم الطعام. وبدلاً من تلقي أقساط نقدية على بطاقات تحويل المنافع الإلكترونية الخاصة، سيحصل المسجلون في البرنامج على صناديق من الأطعمة المعلبة.
ولحسن الحظ، يبدو أن الاقتراح مصيرة سلة المهملات، لكنه لا يزال بمثابة مثال مفيد. أولئك الذين يستخدمون لغة الحقوق سوف يجيبون بأن الحكومة ليس لها الحق في خفض مدفوعاتهم المالية لأن لديهم الحق في القيام بالتسوق بأنفسهم.
ويمكننا أيضاً صياغة الانتقادات بلغة الواجب لنقول: “من الظلم أن نستبدل المساعدات المالية بالوجبات المعلبة، الأمر الذي سيضر بصحتنا الجسدية والعاطفية”. في حين أن الرد الأول من شأنه أن يشعل ما تسميه فايل “روح الخلاف”، فإن الرد الثاني قد “يلمس ويوقظ روح الاهتمام من مصدرها”. بمعنى آخر، مثل هذا الرد يطلب منا أن ننسى أنفسنا وننشغل بدلاً من ذلك بحياة الآخرين. كما كتبت إيريس مردوخ، إحدى أكبر المعجبات بفايل، “تتطلب المواقف الأخلاقية منظوراً موضوعياً وغير عاطفي ومنفصل وغير أناني”. مثل هذا الاهتمام يسمح بالوضوح الأخلاقي والسياسي الذي تعجز عنه “لغة الحقوق” ببساطة. إن الاهتمام، بالنسبة لفايل، هو أهم واجباتنا، فهو يجبرنا على إدراك أن ما تسميه “le malheur” أو المعاناة، يكمن في دواخلنا جميعاً. وكتبت: “قد أخسر في أي لحظة، بسبب لعبة الظروف التي لا أملك السيطرة عليها، كل ما أملكه، بما في ذلك الأشياء التي أمتلكها بشكل وثيق لدرجة أن أعتبرها نفسي”.
يتضمن هذا إحساسي بالاستقلالية، والذي ينعكس في أفعال عادية مثل الشراء من البقالة، ولكن أيضاً في أعمال أكثر دراماتيكية. ترى الفيلسوفة المعاصرة أندريا ناي إن فايل سلطت ضوءاً قوياً على الجدل الدائر حول الإجهاض. وفي الواقع، فإن مفاهيم الالتزام والاهتمام ذات الصلة توفر طريقاً ثالثاً بين أولئك الذين يطالبون بحق الجنين في الحياة وأولئك الذين يصرون على حق المرأة في الاختيار. كتبت ناي، برفض هذه المطالبات القائمة على الحقوق، “قد تستمع الناشطة النسوية الفايلية إلى النساء أنفسهن باعتبارهن يحاولن فهم حياتهن من أجل التوصل إلى إحساس ملزم بما يجب القيام به لاستعادة التوازن الاجتماعي وإنشاء مجتمع لا تتعارض فيه الواجبات”. وقد يدعو مثل هذا النهج المرأة التي ترغب في الإجهاض إلى الاهتمام الكامل بموقف لا يتعلق بها وحدها.
لا أقصد تقديم كل هذا باعتباره علاجاً سحرياً لمأزقنا السياسي الحالي، وهو المأزق الذي سترفضه فايل بالتأكيد، كما فعلت في فرنسا عشية الحرب العالمية الثانية، فوصفتها بأنها كانت بمثابة “وابل لا يصدق من الأكاذيب، والديماغوجية، والتبجح الممزوج بالذعر”، و”الفوضى، في “جو لا يطاق على الإطلاق.” ومع أن رؤاها فيما أسمته “الدراما الاجتماعية” قد لا تؤدي دائماً إلى الوضوح، إلا إنها تجبرنا على النظر في كيفية تغير السياسة إذا أفسحنا المجال للالتزام.
الكاتب: أستاذ في كلية الشرف بجامعة هيوستن ومؤلف كتاب “تنوير بوزويل”.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
المراجع: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
What We Owe to Others: Simone Weil’s Radical Reminder
Robert Zaretsky
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”