تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢١ سبتمبر ٢٠١٣
إنني أؤمن بالحياة بعد الموت.
لا، لا أعتقد بأنني سأستمر بالعيش ككائن واعي بعد فنائي من الأرض، بل أنا على قناعة تامة بأن الموت يمثِّل نهاية الحياة بشكلٍ قاطع ولا رجعة فيه.
إن إيماني بالحياة بعد الموت أمرٌ دنيويٌ. ما أؤمن به هو أن الآخرين سيستمرون في العيش بعد موتي؛ ربما تتفق معي في هذا المعتقد. صحيحٌ أننا نعلم أن الجنس البشري لن يستمر إلى الأبد، إلا أن معظمنا يعتبر أن بقاء الجنس البشري أمرٌ مفروغ منه، على الأقل لفترة من الوقت بعد رحيلنا.
ولأننا نُسلّم بهذا المعتقد، فإننا لا نفكر كثيرًا في أهميته. أعتقد، رغم ذلك، أن هذا المعتقد يلعب دورًا بالغ الأهمية في حياتنا، حيث يؤثر تأثيرًا هادئًا وحاسمًا على قيمنا والتزاماتنا وأولويات أفعالنا. قد يبدو هذا الطرح مثيرًا للدهشة، إلا أن بقاء الناس واستمرارهم بعد مماتنا – حتى لو كانوا غرباءً عنا تمامًا – يهمنا أكثر من بقاءنا نحن أو حتى بقاء أحبائنا على قيد الحياة.
دعنا نتناول هذا السيناريو الافتراضي. لنفترض أنك تعلم أنك ستعيش حياة مديدة وستموت بسلام خلال نومك، ولكن سيتدمر كوكب الأرض وكل مَن عليه، بعد 30 يومًا من مماتك، بسبب اصطدام كويكب ضخم به. فكيف ستؤثر هذه المعلومة عليك؟
إذا كنت مثلي، ومثل معظم الأشخاص الذين ناقشت معهم هذه المسألة، فستجد أن هذه المعرفة بالمصيبة مزعجة للغاية. وقد تؤثر تأثيرًا كبيرًا على قراراتك بشأن الكيفية التي تعيش بها حياتك. إذا كنت باحثًا في مجال السرطان، فقد تكون أقل حماسًا لمواصلة عملك. (فمن غير المرجح، على كل حال، العثور على علاج في حياتك، وحتى لو وُجِد هذا العلاج، فما فائدته في الوقت المتبقي؟) وإذا كنت، بالمثل، مهندسًا يعمل على تطوير سلامة الجسور من الزلازل، أو كنت ناشطًا يحاول إصلاح المؤسسات السياسية أو الاجتماعية، أو نجارًا يهتم ببناء الأشياء التي تدوم. ما الفرق الذي ستحدثه هذه المساعي إذا كان زوال الجنس البشري وشيكًا؟
إذا كنت روائيًا أو كاتبًا مسرحيًا أو مؤلفًا موسيقيًا، فقد لا ترى فائدة في الاستمرار في الكتابة أو التأليف، نظرًا لأن هذه الأنشطة الإبداعية عادةً ما تُنفَّذ بناءً على فرضية وجود جمهور مستقبلي أو إرث يتلقى تلك المنتجات الابداعية. هل سيكون لديك دافع لإنجاب الأطفال في ظل المعرفة بفناء البشرية قريبًا بعد وفاتك؟ لا، على الأرجح.
لاحظ أن حقيقة الموت عادةً لا تحرم البشر من غاياتهم. يخاف الكثيرون بالطبع من الموت، ولكن حتى أولئك الذين يخشون الموت (وحتى أولئك الذين لا يؤمنون بالحياة بعد الموت) يظّلون مؤمنين بقيمة ما يفعلونه في حياتهم على الرغم من معرفتهم بأنهم سيموتون يومًا ما. إن استمرار الآخرين في الحياة بعد وفاتنا يهمنا أكثر بالتالي من بقائنا نحن أنفسنا على قيد الحياة.
قد يبدو تفسير ذلك بسيطًا: إن دمار كوكب الأرض بعد 30 يومًا من موتنا يعني إذن موت كل الأحياء الذين نهتم لأمرهم في هذا الوقت بشكلٍ مفاجئ وعنيف. أزواجنا وشركاؤنا وأبناؤنا وأحفادُنا وأصدقاءنا وكل مَن نحب، كلهم سيفنون. ولعل قلقنا على أحبابنا هو ما يفسر رعبنا من احتمالية وقوع كارثة بعد الموت.
لكنني لا أعتقد أن هذه هي القصة الكاملة. تأمل معي سيناريو افتراضي آخر مأخوذ من رواية فيليبس دورثي جيمس “أبناء الرجال”. حيث أصبحت البشرية في رواية السيدة جيمس عقيمة ولم تُسجَّل أي حالة ولادة منذ أكثر من 25 عامًا. تخيل أنك وجدت نفسك تعيش في مثل هذه الظروف. لا أحد على قيد الحياة الآن يبلغ من العمر أقل من 25 عامًا، وأصبح اختفاء الجنس البشري وشيكًا حيث يتلاشى السكان المسنون دون توقف. كيف ستكون ردة فعلك؟
كما في حالة اصطدام الكويكب، ستبدو العديد من الأنشطة عديمة الفائدة في ظل هذه الظروف بما فيها أبحاث علاج السرطان، وجهود السلامة من الزلازل، والنشاط الاجتماعي والسياسي وما إلى ذلك؛ بل أبعد من ذلك، كما تشير رواية السيدة جيمس بوضوح، من المرجح أن يؤدي تفشي عقم عالمي لا رجعة فيه إلى انتشار الاكتئاب والقلق واليأس لدى البشر على نطاقٍ واسع.
قد ينشد البعض العزاء في الإيمان الديني، وقد يجده البعض. وسيستمتع آخرون بأقصى ما في استطاعتهم بالأنشطة التي تبدو مرضية في حد ذاتها: كالاستماع إلى الموسيقى، واستكشاف العالم الطبيعي، وقضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء، والاستمتاع بملذات الطعام والشراب. ولكن حتى هذه الأنشطة قد لا تبدو مرضية بشكل تام، حيث يشوبها الحزن والألم في ظل خلفية إنسانية تحتضر.
لاحظ أنه في هذا السيناريو، على عكس اصطدام الكويكب، لن يموت أحد قبل أوانه. لذا فإن ما يثير الخوف حيال احتمالية العيش في عالمٍ عقيم لا يمكن أن يكون بسبب شعورنا بالخوف بشأن وفاة أحبائنا. (فهم سيموتون في كل الأحوال بالطبع، لكن هذا لا يختلف عن وضعنا الفعلي). ما يثير الخوف هو ببساطة فكرة عدم قدوم بشر جُدُد إلى هذا الوجود.
يجب أن نتوقف هنا قليلاً. فمعرفة أننا وكل مَن نعرفه ونحبه سيموت يومًا ما لا يجعل معظمنا يفقد الثقة في قيمة أنشطتنا اليومية. لكن إدراكنا بعدم قدوم بشر جُدُد إلى هذه الحياة سيجعل العديد من تلك النشاطات تبدو غير مجدية.
أعتقد أن هذا يدل على أن بعض الافتراضات الشائعة حول الأنانية البشرية تُبَسَّط تبسيطًا مفرطًا في أحسن الأحوال. فقدرتنا على اكتشاف أهدافنا والقيمة في حياتنا تعتمد على ما نتوقع حدوثه للآخرين بعد وفاتنا، مهما بلغ مقدار اهتمامنا بأنفسنا أو نرجسيتنا. حتى العملاق الأناني المتفاني لمجده الشخصي قد يكتشف أن طموحاته بدت بلا جدوى إذا كان اختفاء البشرية وشيكًا. صحيحٌ أن البعض لا يستطيعون الاعتماد على طيبة الغرباء، إلا أن الجميع تقريبًا يعتمدون على وجود الغرباء في المستقبل.
أعتقد، بالمثل، أن الافتراضات الشائعة حول الفردانية البشرية مُبالَغ في تبسيطها. صحيحٌ أن لدينا كأفراد قيم وأهداف متنوعة وأن الأمر متروك لكل منا للحكم على ما نعتبره حياة جيدة أو جديرة، إلا أن أغلبنا يسعى لتحقيق أهدافه وإدراك قيمه في ظل الاعتقاد الذي يفترض استمرار الجنس البشري. أزِل هذا الاعتقاد، وستبدأ ثقتنا بأهدافنا والقيم التي نتبناها تتلاشى.
ثمة درس هنا أيضًا لأولئك الذين يعتقدون بأنه في حال لم تكن هناك حياة أخرى بعد الموت، فإن حياتهم ستفتقر إلى أي معنى أو هدف. يبدو أن ما هو ضروري لضمان الأهمية المُدرَكة لما نفعله ليس الإيمان بالحياة بعد الموت، بل الاعتقاد بأن البشرية ستبقى، على الأقل لفترة طويلة نسبيًا.
ولكن هل ستعيش البشرية لفترة طويلة؟ إننا نفترض عادةً أن الآخرين سيعيشون بعد موتنا، إلا أننا نعلم أيضًا أن هناك تهديدات خطيرة لبقاء البشرية. ليست كل هذه التهديدات من صنع الإنسان، ولكن بعضًا من الأشد إلحاحًا منها من صنعه بكل تأكيد، كالتهديدات التي يفرضها تغير المُناخ وانتشار الأسلحة النووية. يستحثنا كثيرًا الأشخاص الذين يقلقون من هذه المشكلات لتذكر إلتزاماتنا تجاه الأجيال القادمة، والتي يعتمد مصيرها اعتمادًا كبيرًا على ما نفعله اليوم. ويشددون على أننا ملزمون بإبقاء أرض صالحة للعيش والمحافظة على البيئة حتى يستطيع أحفادنا العيش فيها.
أتفق مع طرح هؤلاء، ولكن هناك جانب آخر للقصة. نعم، يعتمد أحفادنا علينا لجعل وجودهم ورفاههم ممكنيْن. لكننا نعتمد أيضًا عليهم وعلى وجودهم إذا أردنا أن نحيا حياة مزدهرة؛ وبالتالي فإن الأسباب التي تدفعنا للتغلب على التهديدات التي تواجه بقاء البشرية لا تنبع فحسب من التزاماتنا تجاه أحفادنا. بل لدينا سبب آخر يدفعنا لمحاولة ضمان مستقبل مزدهر لأولئك الذين يأتون بعدنا، يكمن ببساطة في كونهم مهمون جدًا لنا، بدرجة نادرًا ما نعترف بها أو نعيها.
الكاتب: سامويل شيفلر، أستاذ الفلسفة والقانون في جامعة نيويورك، وهو مؤلف الكتاب المرتقب “الموت والحياة بعد الموت.”
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
.The Importance of the Afterlife. Seriously
Samuel Scheffler
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”